شهداء برائحة الحرية

 

شهداء برائحة الحرية

نورا محمد​​ ​​ مصر

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\محمد الدرة.jpg

 

كأن المشهد يأبى أن​​ يغيب​​ عن النظر وينأى عن​​ حدود الذاكرة،​​ ليظهر​​ في​​ كل لحظة بتفصيل أشد​​ عنفا​​ وضراوة، ويكون​​ الحق​​ للقوة​​ والقتل بدم بارد، والسيناريو​​ أعدّه​​ المحتل​​ وهو يسفك​​ هذه المرة​​ دماء​​ الكلمة الحرة،​​ ويغتال​​ المغدورة شيرين أبو عاقلة.​​ ليسقط​​ الحق​​ شهيدا​​ على أرض المعركة،​​ التي​​ طالما​​ أزهقت أرواحا فدائية​​ باسلة،​​ لتسلِّم​​ أمانة​​ الراية​​ الخفاقة​​ لأجيال وأجيال​​ قادمة.

 

​​ دماء​​ لم تسقط هباءً، بل لتُسطِّر صفحات الشرف والعزة والكرامة،​​ التي لم ولن​​ ينال منها​​ أصحاب اليد الملطخة​​ بالخسة​​ والجريمة، وما أن تنتهي القصة​​ حتى​​ تبدأ قصة​​ أخرى، لتضرب لنا أعظم آيات الثبات والشجاعة، ثبات الإرادة أمام سيطرة المحتل، ودفاع​​ عنيد​​ لن يقبل​​ بغير​​ النصر​​ نهاية.

 

عالم​​ يحكمه​​ قانون​​ الرصاص،​​ باتت​​ كلمة الحق​​ فيه​​ فريسة​​ مستباحة​​ للغاصب، يفتك​​ بها​​ ويوهم العالم بحضارة مزورة.​​ السبابة على الزناد؛ ثم​​ يكتم​​ أنفاسه ويسدَّد الهادي إلى​​ رأس الضحية.​​ طلقة​​ قناص​​ واحدة​​ كانت كافية لإصابة​​ الهدف،​​ لتخفق​​ الضحية​​ بدمها قليلا​​ وتسلم​​ الروح لخالقها.

 

هكذا​​ يقترب​​ صاحب الحق​​ من حلمه في​​ الحرية،​​ التي​​ تحصد الثمن​​ أرواحًا لم تطمع​​ يوما​​ بغير​​ السيادة. لكن​​ المؤسف أن تكون الحرية التي​​ قاتل من أجلها​​ شعب طاهر،​​ هي قاتلهم الأول دون​​ رحمة،​​ فأبرمت اتفاقًا​​ موقعا بالدم،​​ وعاهدت العدو على​​ مواجهة​​ طلقات الرصاص بأصوات​​ عالية​​ لم تخفت​​ مرة​​ واحدة​​ ،​​ ولو​​ أن​​ الرصاص​​ الغادر​​ تمكن​​ اليوم​​ من​​ أداء​​ مهمته على وجه​​ الدقة!

 

ولم يطمس الزمن​​ بعد​​ صورة الشهيد محمد الدرة، بطل الطفولة وشعلة البداية في تكاتف​​ الناس حولها​​ لنصرة​​ فلسطين​​ القضية،​​ وبات​​ اسمه​​ فحسب​​ ​​ يؤرق​​ المحتل،​​ ويوقد نيران الغضب والثورة في​​ القلوب النابضة. تفاصيل المشهد​​ ترتفع​​ أصداؤه مع كل حرف من حروف اسمه​​ بالعالي،​​ ولحظات الترقب والصدمة​​ ملأت أرواحنا​​ قبل​​ وبعد​​ رحلته إلى​​ المقبرة.​​ الألم​​ على طفولة​​ غضة أدمت الإنسانية،​​ كُتب عليها الموت​​ قبل أن تبدأ​​ الرحلة، لتسقط​​ الضحية​​ في​​ اليد الملوثة​​ بالجريمة.​​ 

 

​​ لكنه شعب الإصرار على البقاء،​​ للوصول إلى الحق​​ والعيش​​ ​​ بسلام،​​ مع​​ تأهب​​ دائم​​ لقتل​​ واختطاف بين​​ الفينة والفينة،​​ مستدركا​​ معنى الحياة بعد دهر من العدم،​​ لإثبات الحق وإعلاء​​ الراية، فلم تكن يوما​​ أسلحة البشر قادرة على إخماد​​ إرادة​​ الشعب​​ المناضل، من أجل الحرية​​ وروحه هي​​ الثمن.​​ 

 

لم تنتهِ الملحمة ولم تخفت​​ صرخات​​ الدفاع​​ عن الحق،​​ لينضم الأبطال لقوافل الشهداء يومًا بعد يوم، دون​​ ما​​ وجل​​ أو​​ شعور بالهزيمة.​​ مع كل شهيد يسقط​​ ترتفع​​ أصوات التحرير أمام الصمت المهين،​​ ليظهر مدى جُبن​​ المحتل الدخيل​​ بأوهام لا أساس​​ لها​​ ليحارب​​ من أجلها، ولا منطق له​​ إلاّ​​ بممارسة حقده​​ وحرب​​ العين والمخرز.​​ ستخرس ألسنته​​ في النهاية​​ وتتداعى​​ أسلحته،​​ وهو​​ المهزوم​​ مهما طال الزمن.​​ سينقلب عليه​​ التاريخ ويفسح​​ في​​ المجال إلى​​ طريق​​ الخلاص​​ لأرواح واجهته​​ ببسالة،​​ دون تردد​​ واكتراث بغريزة البقاء، فلا بقاء​​ بعد موت الحقيقة​​ أو​​ بعد زوال الوطن.

 

11​​ مايو 2022 .. موت جسد وميلاد بطولة

 

مع​​ سترة تحمل​​ ​​ شارة​​ "الصحافة"، ونظرات مليئة بالذعر​​ من قول كلمة الحق، وأثناء تأدية عملها وتغطية أحداث مخيم جنين​​ في​​ الضفة الغربية، استقبلت إحدى الصحافيات زميلتها التي سقطت في غمضة عين​​ عن سابق نية بالقتل، وكانت تعيش على الأمل بالحرية وغد أفضل،​​ ليتكرر مشهد "الدرة"،​​ وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة​​ في​​ أحضان الأب​​ الثاكل​​ المكلوم،​​ أمام​​ رشقات من​​ الرصاص​​ الغادر،​​ أودت على الفور بحياة​​ صغيره​​ وحبة قلبه،​​ ليدون​​ في صفحة عاره من جديد​​ اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة، على​​ صفحة​​ بيضاء​​ ​​ وحمراء​​ في تاريخ البطولة الفلسطينية.​​ 

 

خمسة وعشرون​​ عامًا في نقل انتهاكات الإحتلال،​​ ومحاربته بكل ما تملك​​ الكلمة من قوة..​​ هي التي لم تبخل بصوتها​​ العالي،​​ لمساندة​​ الوطن​​ وإنقاذه​​ من قبضة المستعمر​​ الغاصب، لم تخف​​ أو​​ تتراجع عن كشف​​ إجرامهم​​ وخططهم​​ الجهنمية، فلم يتورعوا​​ أن​​ يسفكوا دمها​​ ويتخلصوا منها بالقتل​​ قنصا..​​ كأبشع وأجبن​​ ما يكون أسلوب​​ القتل،​​ لأنهم لم يتحملوها وهي​​ تنقل كلمة الحق.​​ 

 

ظهر​​ للمرة المليون الوجه​​ الخبيث​​ للمحتل​​ الغاشم،​​ وأطاح بنظراتهم المتعالية بما يملكونه من أسلحة​​ للنيل من​​ البشر والحجر.​​ لكن مهلًا​​ ​​ لئن​​ تمكن بطشهم من​​ الجرائم والقتل،​​ فإنه لن​​ يقوى على سحق من تسلحوا بالإيمان.​​ حتى​​ تتحقق​​ النهاية بالنصر​​ الأكيد، ذلك هو​​ هدفهم​​ الأول​​ والأخير.​​ ​​ 

 

الشعب الفلسطيني .. لا رهان

 

شعب تمسك بحقه ولن​​ تتراخى قبضته​​ مهما جار عليه الزمن، ولو​​ ماتت​​ الأجساد​​ وهي تناضل​​ بلا تهاون​​ في​​ الدفاع عن​​ كرامة أرضها، فلن​​ يقضي​​ الموت​​ على​​ كلمة الحق ولن تُفتح​​ أبواب​​ القبور،​​ إلا لمن حسب أنه الفائز​​ بسفك​​ الدماء،​​ وشيرين أبو عاقلة​​ قدمت أروع الأمثلة في التفاني​​ والفداء.

 

أبو عاقلة مراسلة الجزيرة القطرية إلى فلسطين.​​ والجزيرة المؤسسة السباقة​​ على سائر جنبات​​ ​​ الكوكب​​ في​​ تغطية الحدث​​ بكفاءة​​ وحيادية​​ عالية، والتي سددت بعد "أبو عاقلة" الثمن الأكبر. تغطية شاملة​​ من روسيا وأوكرانيا إلى ​​ لبنان فلسطين.. وبعد.. على أقصى​​ نقطة​​ ​​ من​​ الكوكب.​​ 

 

شيرين كانت بالأمس​​ تضج بالحيوية في نقل​​ أخبار فلسطين،​​ ​​ فتحولت اليوم ​​ إلى​​ العنوان​​ والخبر.​​ 

 

المستعمر نهايته مؤكدة​​ بلا ريب،​​ والوطن​​ سيتحرر مهما​​ طال الزمن،​​ فالنهاية محسومة​​ لصالحه​​ ولو​​ حرفها المضللون​​ عن الطريق في مواجهة​​ شجاعة لا تنضب،​​ وقلوب وجدت​​ حياة​​ في مواجهة الغاصبين.​​ واليوم​​ سقطت​​ دموع الحزن والفخر​​ معا، وهي​​ تقدم​​ على مذبح الحرية​​ ​​ بطولة أخرى لن يجرؤ الزمن على​​ طمس​​ أثرها.​​ تضحية عظيمة​​ بملامح​​ بطولية​​ مطمئنة،​​ وبداية​​ جديدة​​ لأجيال​​ غاضبة،​​ لن​​ تهدأ إلا بالثأر​​ للوطن​​ ودم​​ الشهداء، وأرض لن​​ تزهر​​ إلا على تراب​​ شيرين أبو عاقلة.

 

للمشاركة

Nora_Mohammad

كاتبة مصرية

Read Previous

ما يرسم الغيم

Read Next

Dans les bras du vent في مهب الريح

3 Comments

  • من دينا
    وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
    وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ

    نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ
    وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ
    وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ
    نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ

    وَنَزْرَعُ حَيْثُ أَقمْنَا نَبَاتاً سَريعَ النُّمُوِّ , وَنَحْصدْ حَيْثُ أَقَمْنَا قَتِيلاَ
    وَنَنْفُخُ فِي النَّايِ لَوْنَ البَعِيدِ البَعِيدِ , وَنَرْسُمُ فَوْقَ تُرابِ المَمَرَّ صَهِيلاَ
    وَنَكْتُبُ أَسْمَاءَنَا حَجَراً ’ أَيُّهَا البَرْقُ أَوْضِحْ لَنَا اللَّيْلَ ’ أَوْضِحْ قَلِيلاَ
    نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلا…
    محمود درويش

    شكرا للروافد.. وشكرا لنورا
    التي تتفاعل بسرعة مع الحدث
    شكرا لمشاعرها الفياضة الصادقة مع كل ما يجري في فلسطين
    والشكر الأول والأخير للشهيدة المظلومة شيرين التي حررت القدس لبضع ساعات
    حيث رفع العلم الفلسطيني في شوارع القدس العتيقة ..

    هي طريق الآلام من جديد على الأرض إياها والقاتل إياه .. أنه أمر إلهي عظيم!

    قرأنا كيف عُذب المسيح، والآن نراه رؤيا العين

    هكذا تخلق الرموز… شيرين صارت مرادفا لجنين والقدس وكل فلسطين.

  • أستاذتي الغالية دينا ..

    https://fb.watch/c-kwb1T4J3/

    أشكرك على تعقيبك المُقَدَّر الطيِّب، يكفيني أن تكرمني به إنسانة تسري في عروقها دماءً طاهرة وروحا مقاومة، تأبى الخضوع أو الاستسلام. الأمر جلل.. والفداء جدير بألم عظيم تعجز عن وصفه الكلمات، لكنه لم يكن بحال من الأحوال إلاّ لكي يزيدنا صمودا وقوة.

    لن تُقمع أو تستسلم أرض البواسل الأحرار، فالأحداث العصيبة إن هي إلاّ للتأكيد على صلابة شعب لم يُخلق إلا للحرية، ليُعَلِّمَ السوى كيف يكون الشرف؟ وكيف يكون الفداء عنوان العزة والكرامة.

    كما وحّدنا الوجع، سيجمعنا النصر في الخلاصة. النصر قادم أستاذتي، وأرض فلسطين باقية أبداً قبلة أنظار أبناء فلسطين والأحرار في العالم.. .. قبلة حارة على جبينك العالي، وجبين كل من أفنى حياته للدفاع على تراب وطنه، ولروح شيرين الرمز “وأيقونة النضال”… الصمود والعزة والنصر لفلسطين.. كل فلسطين.

  • رحم الله شيرين أبو عاقلة
    السلام والسكينة لروحها الطيبة وصوتها الحي
    ولكل الأرواح الطاهرة النقية الغائبة عن الدنيا.

Comments are closed.