أيْنَ اختفى ريشُ الخَفَّاشْ..؟

 

أيْنَ​​ اختفى​​ ريشُ​​ الخَفَّاشْ..؟​​ 

إبراهيم بوسف​​ ​​ لبنان

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\CHAUVE SOURIS.jpg

 

حكاية​​ رواها لي​​ النسيب والأخ الصديق عبد العزيز الدعلوس​​ من المغرب​​ عندما​​ ​​ استضافني​​ مشكوراً​​ في مدينة بون​​ وأكرمني​​ لأيام​​ أكرمه ربّه؛​​ والحكاية مقرونة​​ بخالص محبتي واحترامي وتقديري لمليكة اخته وابنتي​​ العزيزة على قلبي.

 

قَتَلْتُمْ ابنَ بنتِ نَبِيِّكُمْ..!

فلا آمَنُكُمْ​​ بعد اليوم​​ على نفسي.​​ 

(ألبومة).

 

(والرواية عن الإمام الصادق (ع)​​ أن​​ البومة​​ كانت​​ لمّا​​ تزل تأوي​​ الى​​ المنازل​​ والدور​​ والقصور ومختلف​​ العمران​​ حتى​​ أتاها في العاشر من محرم​​ من​​ يلطمها بخبر​​ مقتل الإمام الحسين،​​ فخرجت من العمران الى الخراب​​ وراحت تردد​​ قولها عن المأساة:​​ "بئس الأمة​​ ..؟​​ قتلتم ابن بنت نبيكم فلا آمنكم​​ بعد اليوم على نفسي" ، وكانت تئن​​ وتبكي​​ على الحسين خلال الليل حتى تصبح. وفي رواية أخرى:​​ "أصيب طائر البوم بالجنون عندما​​ بلغه​​ خبر مصرع الحسين،​​ حتى إذا ما​​ خيّم الليل​​ من جديد​​ شعر بالنكبة المأساة​​ وراح​​ يستعيد​​ الحزنَ​​ والبكاء​​ ").

 

 

كانَ المَلِكَ​​ المطلق،​​ عاشَ مَجْداً خَضَعَتْ له​​ الدنيا في أربع رياح الارض، وبسطَ​​ مملكتَه على أرضٍ​​ ضاقتْ​​ بها​​ أرجاؤها​​ وسكانها،​​ فأقامَ​​ الأمن​​ فيها​​ وحكمَ​​ بين الرَّعيَّة​​ بالعدل واالقِسطاس.​​ ثم​​ سخَّرَ​​ اللهُ​​ لهُ​​ مَنْ​​ عليها​​ من​​ الإنسِ​​ والجان؛​​ يُحَدِّثُ​​ الطّيرَ​​ فتنصت له،​​ وتواكبه وهي تحلق​​ وتظلل​​ سيره،​​ والريحُ​​ ينفخُ​​ فيها​​ فَتَهْدأ وتعصف​​ متى​​ يؤشر لها​​ أو​​ يشاء.

 

توَّجَ للهُدْهُدِ رأسَهُ ولوَّنَ ريشَه.. زوَّدهُ بما يُدْهِشُ قلبَ المرأة ويسبي عقلها؛​​ وأطلقَهُ يتجَسَّسُ على ملكةِ اليَمَن.​​ بعدما​​ أعدَّ​​ لعرشِها بساطَ الرِّيح لكي يحملوها إليه؛ وأقامَ من أجلها مساكبَ الوردِ​​ وحدائقَ النُّور؛​​ فاستقدمَ لها الذَّهَبَ من​​ "تَرْشيش"، وبنى من أجلِها قصراً مِنَ​​ الفِضّةِ​​ والياقوت.. أبوابُهُ الألف؛ من خَشَبِ الأرْزِ،​​ وجدرانُهُ​​ من​​ البلّورِ​​ والفيروز..​​ وأوعزَ إلى خدَمِهِ من الإنسِ والجان،​​ فأحضروها إليهِ​​ بسرعة النور،​​ قبلَ أن​​ ​​ يرتدَّ طرفُهُ إلى عينيهِ..؟​​  ​​ ​​​​ 

 

جفاها​​ النومُ​​ على فراشٍ​​ ناعم كالحرير؛​​ فعَقَرَتْ جنبَها حبَّةُ خَرْدَلٍ​​ تحتَ الفراش.​​ أرِقِتْ في الليلةِ​​ الأولى​​ بعيداً من ديارٍ تَعَوَّدَتْ فيها الحياة،​​ فلم تُجْدِها​​ المُسَكِّناتُ من​​ مستحضراتِ​​ المريمية​​ ومن​​ الزيزفون​​ والبَيْلَسَانِ،​​ وسائر​​ أصناف​​ المُهدِئات من​​ الأعشاب،​​ فتقلَّبتْ على فراشٍ​​ كأنَّهُ​​ صُنِعَ​​ من​​ الشوك​​ والمسامير..؟

 

​​ وحينَما​​ أدركَها الصباح،​​ دَفَعَتْ عن نفسها​​ ما لاقَتْهُ​​ في ليلِها​​ مِن​​ السهر​​ والملل​​ والوَهَن​​ الشديد،​​ حينما​​ أصدرتْ​​ أمرَها​​ للمَلِك،​​ كي​​ يجمعَ​​ لها​​ رعاياهُ​​ مِنَ​​ الطيْر..​​ فامْتَثَلَ​​ الملِكُ​​ للأمر​​ على الفور..​​ وراحَ​​ المنادي يدعو​​ الطيرَ​​ لاجتماعٍ​​ طارىء..​​ كي​​ يُعِدُّوا للملكةِ​​ فراشاً​​ ووسادةً​​ من الرِّيش​​ والحرير.​​ ​​ 

 

كانَ​​ الخفّاشُ​​ أوَّلَ​​ الواصلين، فهو​​ في​​ عجلةٍ​​ من أمرِه،​​ وعليهِ​​ أن يعودَ​​ بسرعةٍ​​ كما جاء..​​ والمَلِكُ​​ لَمْ​​ يُخْلِ سبيلَهُ​​ قبلَ​​ أن يكتملَ​​ النِّصاب..​​ طالَ​​ الانتظار،​​ وراحَ​​ الخفّاشُ​​ يتململُ​​ مُسْتَنْفَرَ الحال،​​ حانِقاً​​ على الآخرين​​ لبلادتِهم،​​ وتأخّرِهم​​ عن​​ الحضور​​ في الميعاد.​​ استبدَّ​​ به​​ الغضبُ​​ وَرَكِبَهُ​​ الغباء،​​ فقالَ​​ للمَلِك​​ بلا وَعْي​​ منه​​ ولا​​ تدبير: هاكَ​​ رِيشي وَدَعْني في سبيلي..!​​ هكذا​​ في​​ ومضةِ​​ عَيْن​​ تنازلَ​​ الخفّاشُ​​ عمَّا يكسو​​ جناحَيهِ​​ مِنَ​​ الرِّيش.. ليكونَ​​ فراشاً​​ لبلقيس..​​ 

 

بدأتْ​​ تتوافدُ​​ الطيور،​​ حينما رحلَ​​ الخفّاش؛​​ طارَ​​ بجناحينِ​​ عاريين،​​ وجسدٍ مترهِّلٍ​​ مَنْتوف؛​​ خالٍ​​ تماماً​​ من الرِّيش.​​ اخْتَلَّ توازنُهُ​​ وخانتْهُ​​ قدرتُهُ​​ على التحليق..​​ فلم يكدْ​​ يتجاوزُ​​ فناءَ​​ القصر حتى صَدَمَ​​ رأسُهُ​​ سورَ​​ الحديقة، فأصابَ​​ العَمَى عينيه.. ومِنْ​​ يومِها؛​​ والخفّاشُ​​ يَبْذلُ​​ جهداً​​ في​​ التحليق​​ بلا​​ رؤيةٍ​​ ولا ريش.. لكنّهُ​​ تعلَّمَ​​ وهو الضرير،​​ كيف يتجاوزُ​​ الحواجزَ​​ والأسوار​​ فيطيرُ بأمانٍ في الظلام.

 

كانتِ​​ الطيرُ​​ قد​​ توافدتْ​​ واكتملَ​​ النصاب..​​ وحدهُ​​ الهدهدُ​​ صاحب الحظوة؛​​ صفيُّ​​ الملكةِ​​ وسميرُها؛​​ غابَ​​ عنِ​​ الاجتماع. لم تكدْ تُعْقدُ​​ الجلسةُ،​​ حتى​​ انتحتِ​​ البومةُ​​ بالمَلِك،​​ تطلبُ​​ لِقَوْلِها​​ منهُ الأمان..​​ ثمَّ​​ أسَرِّتْ​​ إليهِ​​ تساوِمُهُ​​ ليحفظَ​​ ريشَها..؟​​ قالتْ​​ له: دَعْكَ​​ مِن ريشي.. فنُصحي​​ سيُجديكَ​​ أكثر..!؟​​ 

 

وحينَ​​ استجابَ​​ الملكُ​​ لرغبتِها؛​​ سألتْهُ​​ تقول: أيُّهما​​ الأطول؛​​ ألنهارُ​​ أمِ​​ الّليل..؟ حارَ​​ المَلِكُ​​ بماذا يُجيب..!؟​​ لكنّهُ​​ قالَ​​ لها:​​ لعلهُما متساويان..؟ قالتْ​​ لهُ: بلِ​​ النّهارُ​​ هو​​ الأطول..!​​ قالَ​​ لها​​ وما​​ الدَّليل..؟ فتبسَّمتْ​​ وسألتْهُ:​​ أليسَ​​ النُّورُ​​ ما يُمَيِّزُ​​ النهارَ​​ مِنَ​​ الّليل..؟​​ قالَ نعم، فقالتْ:​​ على هذا​​ فالليالي المُقمرة تنتسبُ​​ إلى النهار،​​ وهكذا تكونُ​​ النهاراتُ هيَ​​ الأطول..!​​ وما الحكمةُ​​ أن يتطاولَ​​ الّليلُ​​ على النهار..؟​​ سأَلها المَلِك..​​ وَرَدَّتْ عليهِ تقول:​​ إنَّها​​ يا سيِّدي​​ فرصةُ​​ البوم..​​ لكي​​ لا يلتقي​​ بالبشر،​​ فوُجوهُ​​ بعضِهم​​ تقطعُ الأرزاق،​​ تُبشرُ بالشؤم أو​​ تُنْذِرُ بالحرب..!​​ لا أحبُّ​​ هؤلاءِ​​ المغرورين​​ الحاقدين، فالبُوم لم يجنِ ذنباً يُحاسب عليه..!!​​ 

 

رَقَّ​​ المَلِكُ لحالِها،​​ ولم​​ يقتنعِ​​ من​​ جدوى​​ الحكمةِ​​ الأولى..!​​ لكنَّهُ مَوْلاها؛​​ ولا يُخْلفُ​​ بما​​ وَعَدها..!​​ فَسَألها​​ وما​​ الحِكمةُ​​ الثانية..؟​​ قالتْ لهُ:​​ أيُّهُما الأكثر الرجالُ​​ أمِ​​ النساء..؟ احتارَ​​ مرَّةً أُخرى​​ بماذا​​ يُجيب..!؟​​ لكنّهُ​​ قالَ لها: يتراءى لي إنّهما متساويان..؟ قالتْ​​ لهُ: لا بلِ​​ النساءُ​​ الأكثر..!؟

 

​​ فَسَألها​​ وما​​ البرهان؟ قالتْ:​​ أليسَ​​ مِنَ​​ الرِّجالِ​​ مَنْ​​ يَنْصاعُ​​ لما​​ تأمرُهُ​​ النساء..!؟​​ تفكَّرَ​​ الملكُ​​ قليلاً،​​ أحَسَّ بالحَرَج​​ وفَطِنَ​​ إلى​​ دِقَّةِ​​ السؤال،​​ لكنَّهُ​​ قالَ بلى..​​ قالها​​ مغلوباً على أمرِه،​​ كمن​​ سقطتْ حجَّتُه​​ وأفْلَتَ​​ الأمرُ​​ مِن يدِيه..!​​ فقالتْ: وهؤلاء​​ الرجال..​​ محسوبون في خانةِ​​ النّساء؛..!​​ وعليه​​ صارتِ​​ النساءُ​​ أكثر..​​ ​​ ​​ 

 

حَكَّ​​ الملكُ​​ رأسَه وأمعَنَ​​ فكرَه،​​ فأدركَ​​ معنى​​ ما تقول،​​ وما ترمي إليهِ​​ البومةُ​​ مِنَ التلميحْ​​ في الخطاب..​​ أعجبتْهُ​​ حنكتُها في التخلصِ​​ من المأزق،​​ وتجاوَزَ​​ ما قالتْهُ​​ في الإشارةِ​​ إلى خشيَتِهِ​​ أمامَ بلقيس..​​ فعفا عنها؛​​ وأطلقَ​​ سراحَ​​ المجتمعين،​​ كُرْمى لعينيها الجميلتين..!​​ ومِنْ​​ يومِها​​ استعادَ الملكُ هيْبَتَهُ،​​ وعاشَ​​ أبو المَكارِمِ​​ الخفاش​​ مَنْتوفاً​​ من​​ الريش، وصارتِ​​ البومةُ"المشؤومة"​​ صاحبة​​ الحكمةِ؛​​ وأمّ​​ الفضل..​​ فلولاها​​ لأضْحَتِ​​ الطيرُ​​ عارية​​ كما الخفَّاش..!​​ والبّشّر​​ ما زالوا على جهالتِهم،​​ وسوءِ​​ طوِيَّتِهم..!​​ فلم يُنْصِفوا​​ بَعْدَ​​ دَهْرٍ من​​ السمعةِ السيئة والتشهير،​​ خاطرَ البُومةِ​​ المُسْتَباحة.​​ 

 

 

 

 

 

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

Les Moulins de mon Coeur

Read Next

شغف

4 Comments

  • حتى الآن مازلت مغرمة بقصص وأفلام الأطفال وصوت طارق العربي طرقان، وبالحكايات الأسطورية والخيالية..

    وقصة الخفاش جميلة، قدمت الفكرة بصورة خيالية وممتعة تناسب الكبار والصغار.

    دمت بحب وسلام.

  • عسى ان تعيشي مائة عام , وما زلت تشعرين بطفولتك يا ايناس

  • مساء النور والأنوار استاذي ابراهيم،
    حمدا لله على عودتك وشغفك والحمد لله والشكر له وحده أنني أقرأ لك من جديد.
    أتمنى من كل قلبي أن تكون بألف خير.
    ميسون

  • لعل السؤال الأكثر حكمة هو الذي طرحه الملك: “وما الحكمةُ​​ أن يتطاولَ​​ الّليلُ​​ على النهار؟”…
    هو الواقع الذي نصبح عليه كل يوم… عسى أن يبزغ فجرنا وهو قريب بحول الله.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *