تعقيباً على قصيدة
أنا الشعب
في محاكاة الجانب الشعري
د. أحمد شبيب دياب
https://www.youtube.com/watch?v=X46NlE6BfJI
عندما بْساعة رحيلي…. تِسْمَعي
لَيِّ تَعِيّ وتْبَسَّمي.. ولا تِدْمعي
حتّى بعيوني صَوْرِكْ صورة وداعْ
طَبِّقْ جفوني وآخدِ الصّورة مَعي
السيِّد علي الحسيني
********
الشاعر الشعبي
جوزيف الهاشم – “زغلول الدامور”
رحل عنا منذ أيام قليلة
بعدما ضجَّت به المنابر
على مدى حياة تجاوزت تسعة عقود
و قد كرَّمته محطة “الأو- تي – ڤي”
تكريما يليق بالراحل الكبير
الرحمة على روح الشاعر الفقيد
والشكر الجزيل للمحطة على التكريم
أمَّا الشعر يا صاحبي فشأنٌ مُختلِف؛ لهفتُهُ تعيشُ حيَّة في الفكر والوجدان، ولي معه حكاية حَزينة؛ حزينةٌ بلا ريب.. تعودُ إلى زمن المراهقة، حينما كنتُ مُقبلاً على الّدُنيا مُعْتدًّاً بنفسي مفتوناً بها، أمشي مزهوا مُسْبَطِّراً في الطريق، ولا أجدُ ما عدايَ يستحِقُّ الاهتمام.. إلاَّ قصيدةً نظمتُها عند أوَّلِ خفقةٍ للقلب وَحَاثَّةِ ذَكَرٍ درجتْ مع الدم، حينما غزاني الوحيُ لأول مرة في “التَّبّان”. فالشعرُ لزومُ الحبّ يأتي من رحمِه ولا يستقيمُ بدونه. هكذا وُلِدَتْ قصيدتي الأُولى.. والأخيرة.
سلختُ في إعدادها أيَّاماً من الصَّبابة والتّمني، ولياليَ من السَّهر والضّنى والنزق اللعين، وحينَما استقامتْ كما خيل إليّ..؟ قلتُ أستشيرُ أصحابَ الشأن، قبل أن يَحْمِلها “الهوى”، وينثرَها بلسماً يداوي بها جراحَ المُحبِّين، ومرضى القلوب التي أضنتها اللوعة والسَّهر الطويل. هكذا توجَّهتُ من فوري إلى عيادة السيِّد علي رَوْضَة. طبيبٌ غلبَ شعرُهُ شهْرَتَهُ في الطبّ والتمريض.
هذا الشاعرُ الطبيب عاشَ يتيماً، فغلبَت كنيتهُ لأمِّه”رَوْضَة” على كنيته لعائلته “الحسيني”، التي تعودُ في جذورها إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. إذاً هو السيد علي “رَوْضَة” أو “الحسيني”؛ ويُطلِقونَ عليه كذلك لقبَ “الحكيم”.. من سُلالةِ آلِ بيت الرسول الكريم شاعرٌ وطبيب. عرفَتْه سائرُ قرى الإقليم متحدِّثا لمَّاحا لبقاً، ومصغياً عاليَ الفطنة والذكاء، يشدُّ إليه المستمعين بشغفٍ وحبٍّ واحترام.
استقبلني استقبالاً لائقاً وحَسبَني مريضاً في البداية، وأن علَّتي ليست في فكري بل العلة في بدني؛ ولمَّا سألني عن مرضي وممّا أشتكي..؟ ارتبكتُ أمامه وتعرَّق جبيني وتولّتني الحيرة والتردد والخجل، وهو يشجَّعني ويحثني على الكلام. وحينما وَدَّني على نحو ملحوظ، وربَّت على كتفي وأنستُ إليهِ..؟ بحتُ له بسري.. وشعري.
لاحتِ الحفاوة على وجهه وانفرجتْ أساريرُه، ولمعتْ عيناه توسُّماً بفتحٍ شِعْرِيٍّ جديد، وبانت عليه فرحة مقرونة بالمفاجأة، وهو يتلقى خبرالشاعر الجديد، فاستدعى على عجل “روز” ابنته؛ طالبة في الإعدادي تساعدُهُ في عيادته كأمينةً للسر أيَّامَ العطل، ثمَّ أوصاها بألاَّ تُدْخِلَ إلى العيادة مَنْ يأتي مِنَ المرضى أو الزوار، لكي لا يُعَكِّروا علينا صفوَ جلستنا، فالوقتُ كما قال مخصَّصٌ للشعر لا للعلاج والتمريض. ثُمَّ صرَفها وعادَ فناداها بعدَ قليل، وطلبَ إليها أن تعدَّ لنا القهوة.. القهوة التي لم أكن قد تعاطيتها وأحببتُها بعد.
كنتُ مزهواً بنفسي وقد استمعَ إليَّ باحترام بالغ، وابنته الجميلة أعدَّتْ لنا القهوة من أجلي؛ وقد أصرَّ بعد تمهيدٍ قصير أن أحتسيها معه. كل ذلك لكي يضمنَ للجلسة أهميتها ومعناها. ثم أشعلَ لفافة تبغ وسألني إن كنتُ أُدَخن..؟ وأجبته بالنفي؛ ولا؛ خجولة من لساني واكبَتْها إشارة من رأسي إلى فوق. هكذا تَجَنَّبَ الإلحاح بدعوتي للتدخين.. كما ألحَّ عليَّ بتناول القهوة.
لعلّه لو لم يكن شاعراً ولو كان طبيباً فحسب..؟ لما كان يدخِّن. عبَّ رشفة مكتومة من القهوة ونفساً عميقاً من “سيكارته” واسترخى في مقعده، ثمَّ التفتَ إليّ وابتسَّمَ مشجعاً من جديد، قائلاً لي باهتمام من يتوقع مفاجأة لا يدري ما تكون: هيَّا هاتِ ما عندك يا صديقي.
في الواقع لا أذكرُ من القصيدة إلاَّ عنوانها: “حبٌ في الشتاء”، وكلمات قليلة من المطلع أقول فيها: “قصَصْتُ شَعْري ولمَّعتُ سُبَّاطي..”، والسُّباط هو الحذاء، وعلى الأرجح أن تكون المفردة إسبانية الأصل، غنمها العرب فيما غنموا من أيام أمجادهم في الأندلس..؟ هذا كل ما أذكره من العنوان ومطلع القصيدة.. لحسن الحظ بطبيعة الحال.
مهما يكن الأمر؛ فقد أخرجتُ من جيبي قصاصة ورقٍ هي مُدَوَّنَة القصيدة، وثروتي التي كلفتني من طول التأمل والصبابة ما كلفتني، وتنحنحتُ قليلا وبدأت بالعنوان، حيث توقفَ الطبيبُ عنده قليلا وسألني: أليسَ الحبُّ أوْلى في الربيع من الشتاء يا صديقي..!؟ وأجبته على الفور دون أن أدقق ولو قليلا في إجابتي: وهل الوحلُ يبقى حتى الربيع..!؟
إجابة مُستنكَرة وغباءٌ مطبق وخيال صبي يافع، غزته هواجس المراهقة واستحكمت في وعيه وإحساسه وشعره؛ وقد دهمت وجهه البثور وفحَّت من جسمه نتانة تيس الماعز، وريح الشهوة العمياء فألهبتْ خياله وألهمته قصيدته، ومحورها يدورُ حولَ الحبّ في زمنِ الشتاء.. أو الوحل، ولا أدري حقيقة من أين أتتني هذه الخاطرة المنكودة!؟. فرواية “الحب في زمن الكوليرا” لم تكن قد نُشِرتْ أو عرفتُها بعد، لأقتبس منها عنوان قصيدتي على سبيل المثال.
ومع هذا وذاك فميدان الشاعر، لا يصح أن يقتصر أو يتقيد فيلتزم بحدود في الفكر والتعبير عن خلجاته ووجدانه، وله مطلق الحرِّية والحق أن يشردَ عن المألوف، وأن يتمرَّدَ على الضوابط والأوزان والقواعد والأعراف. ويبقى ميدانَه غرامٌ يضيق به القلب ولا تتسع له أربع رياح الأرض! وإلاَّ فكيف يكون الشاعر ملهَماً “ويجوز له ما لا يجوز لغيره”؟!.
هذه المرَّة لاحَ على فمِهِ طيفُ ابتسامة، لكنَّه لم يعلِّق ودعاني بتهذيب مقرون بالصبر والكياسةِ والرثاء لاُكملَ الإلقاء. لم أكد أبلغُ مِنَ القصيدة البيتَ الثالث، حتى فاضَ كيلُه، فتنحنحَ وتململَ في مقعده، ثمَّ وجم قليلاً وبانتِ الخيبة في عينيه خيبة قاسية بلا شك. لكنه كانَ كريماً معي، فاستوقفني دونَ أن ينسى لياقته معي، قائلاً لي ببرمٍ يخلو مِنَ التَّهَكم، وضيقٍ لا يخلو من الابتسام:
دخلَ على أبي حنيفة أعرابيٌ، تبدو عليه إماراتُ النعمة والوقار، من رصانة في محياه وعلاماتٍ أثيرة في هيأته ولباسه.. وأبو حنيفة جالسٌ براحةٍ تامة متكئاً بمرفقه إلى مسندٍ في جواره. وما إن دخلَ الأعرابي بوسامته وهيئتِه الرزينة، حتى استقام أبو حنيفة وتأدَّب في جلسته، فلملمَ نفسه واسترجعَ قدميه الممدودتين إلى الوراء، احتراماً لحضور الوافد الكريم.
رحَّبَ أبو حنيفة بالزائر ودعاهُ بحفاوة إلى الجلوس.. ثُمَّ سأَلهُ عن حاجته وقد استقر بهما المقام..؟ قال الأعرابي: جئتُ أًستفتيكَ في الدين والدنيا؛ ثمَّ ابتدأَ يسأًله.. .. سأله عن مناسكِ الحج وسأله عن أحكامِ الزكاة، وعن الصوم وأُصول الحج وعن مواقيت الصلاة، والأعرابي مصغ يستمع فلا يردُّ ولا يدلي برأي.
لكن مسألة في الصلاة التبسَت على فهم الأعرابي، مما قاله أبو حنيفة وهو يتحدث عن صلاتيّ الظهر والعصر.. فسأله مستوضحاً هذه المرَّة: وما الحكمُ يا مولاي إذا تقدَّمَ العصر على الظهر؟!.. قالها الأعرابيُّ بهدوء وأناة وفواصل بين الكلمات، كمن يريد إحراج أبي حنيفة بالسؤال.. لكن أبا حنيفه أجابه على الفور ولم يَصْحُ مِنْ صدمَتِه بعد: عندما يتقدم العصر على الظهر..؟ يعودُ أبو حنيفة فيمُدُّ ساقيه ويجلس على هواه، دونما حَرَج ولا مؤاخذة أو ملامة من الزوار الكرام.
لم ينتهِ الطبيبُ من الحكاية حتى نادى “روز”، لكي تعود بأوعية القهوة الفارغة إلى المطبخ، وتباشرَ بإدخال المرضى على الفور. وهكذا عاهدتُ نفسي يا صديقي، ووفيتُ صادقاً بوعدي فلم أطرقْ بعدَها بابَ النظم أبداً، ولو أنني أهوى الشعر، وأُميِّزُ منه بينَ الحسنِ والرائع والرديء، وأتذوَّقُ سُلافَهُ حتى الرحيق. لكنني آليتُ على نفسي ألاَّ أنظُمَهُ أو أُفتي به أبداً، بعدَ هزيمةٍ منيتُ بها وخيبةٍ منكرة، مازالت مرارتُها تحتَ لساني، وفي عمق مخِّي وذكرى ذلك اليوم الحزين.