غَرْسُ يمينكِ.. يا نورة

غَرْسُ يمينكِ.. يا نورة

نورة سعدي

مثالُ المرأة الجزائرية

العفيفة الطاهرة

التي كانت تلطِّخُ نفسها

بِسَرْجينِ المواشي

لكي لا ينالَ منها

الغاصبُ الفرنسيُّ الحقير

إبراهيم يوسف – لبنان

القولُ منكَ فِـعـالٌ والظَّنُّ منـكَ يَقـينُ

ما من يديكَ شمـالٌ كلـتـا يديكَ يمـينُ

ابن البوّاب.. في مديح المأمون

الصداقة في اعتقادي خيار، لا ينمو ولا يثمر ما لم يُبْنَ بعناية عالية، ويخيِّم عليه تفاهمٌ عميق؛ لأن الصداقة علاقة محْوَرِيّة، تدور في محيطها سائر العلاقات الإنسانية النبيلة، وتتصل أهميتها بسلسلة من الفضائل، من أبرزها الصدق والمحبة والتعاون والوفاء، وهي حاجة ملحّة لكي لا يعيشَ المرء وحيداً مُتَوَحِّشاً فَتَهِنَ معنوياتُه، ويفشلَ في تحقيق أهدافٍ سامية لنفسه أو لغيره على السواء.

وهي على هذا النحو من الترابط البشري، لمن يقطنون كوكب الأرض، ولو لم نتعرفْ إليهم أو نلتقِ بهم جميعا، إلاَّ أنّه يكفي أن تجمعنا بهم الهموم، والآمال العريضة والطموح المشترك، والظروف المتآلفة حيناً أو المتنافرة أكثر الأحيان.. لكي تشكلَ الصداقة بالرغم من الأنانية والتسلط، وتضارب المصالح بين الأفراد والجماعات، الرابط الأسمى بين البشر وملاذ الإنسان في أمانه وحاجته الدؤوبة إلى القوت والسكينة والسلام، يأتي إليها مستدفئا طامحا في حق يزرعه بالمحبة والتضحية والإيثار، ويحصده بالشكر وفيض من التفاؤل والسعادة والأمل.

وحقُّ الاختلاف كذلك خيار قائم ومشروع؛ واسع الشيوع ومتعدد النتائج والمفاعيل. وفيه يقول “ڤولتير” الكاتب الفرنسي المشهور بأفكاره المُسْتَفِزَّة، ممن دافعوا بقناعة وقوة عن “القِيَم” وحقوق الإنسان و كرامته: “أنا ضدك في كل ما تقول، ولكنني معك حتى الموت أن تقول كل ماتريد”؛ وهذا القول في اعتقادي يشكل أعلى مراتب الديموقراطية؛ والفكر المنفتح على الآخرين، ولو أن الرجل عاش حياة عاطفية مريبة.. مليئة بالمعصية والجنوح.

وتبقى الصداقة الحقّة صفوة العلاقات الإنسانية الجميلة، وبذوراً مؤصَّلة في قلوب المدركين العاقلين، ونتيجة تنشئة سليمة من جهل التعاطي مع الأجيال. يزرعُ بذورها ويرويها ويعتني بها المربون الصالحون.. غرسُ يمينك يا نورة.

أما إشارتكِ إلى “مجنون ليلى” لأحمد شوقي..؟ فمن المسرحيات والروايات، والأشعار التي جاذبتُها في سنٍّ مبكرة، وترنَّمتُ طويلا بترديدها، ولا زلتُ إلى اليوم أختزن في ذاكرتي وأحفظ عن ظهر قلب، ما حَرَّضَ مشاعري وحملها يومذاك أن تطرق باب الحب، بلقاءآت متباعدة كانت عصيَّة على المسافات، ورسائل لهفٍ مكتوبةٍ على ورق زهري مصقول، يزيِّنُ البنفسج بعض زواياها. كان يطول انتظارها مع ساعي البريد ويبلغ أحيانا حد القنوط. أين منه رسائل اليوم بالصوت والصورة الملونة، تصل بلمح البصر وسرعة الخاطر بفضل النت والمحمول..!؟

وتبقى الحسرة في قلبي أنني تهتُ طفلاً حافياً في البراري، ودرستُ على ضوءِ الشمعة والقنديل، وغداً تختفي الأقلام والأوراق والكتب والحبر من التداول في السوق، وتقتصر القراءة والكتابة على الشاشة ولوحة المحمول، أمام شراسة تكنولوجيا العصر، ونحن جزء من ثقافته والمشاركين فيه، كما رواج الرسائل المشفَّرة المتواضعة الباردة،  في رأي الصديق عادل الحاج حسن، التي تتسم بالتعاسة والغموض، والخجل من عيبِ عُرْيِها وانكشافِها أمام العيون.

تلقيتُ منذ عهد قريب قلم حبر هديّة من بلاد الاغتراب، يعود تاريخ صنعه إلى قرن مضى، أو خمس سنوات منذ بداية النهضة بعد الحرب العالمية الأولى. معدنه الفضيّ ما زال لامعا لم يمسسه الصدأ، وريشته ناعمة كالحرير تنزلق بخفَّة ومرونة على الورق، لتروي حكاية الماضي وحاضرٍ أنهكته تفاهة الرسائل الضامرة، وقسوة التكنولوجيا وحرب تتجدد في كل حين. عمره يناهز مائة عام هذا “الألماني” العجوز، والمؤلم أن يواجه خيانة العصر بلا مساندة أو معين، ويتعرض لتحدي وإهانة المحمول والحاسوب، بعدما ابْيَضَّ شعرُه من شدة ما عاناهُ من تعاسة العُمرِ المديد.

ولكي أكون منصفا وصادقا، ما دام القلم يجرُّني للكلام عن الماضي ببعض التفاصيل، ونحن نتحدث عن الصداقة والتربية السليمة والتعليم..؟ فتنبغي الإشارة بأمانة خالصة أنني عشت أزمة مراهقةٍ تتميز بالحرمان والرغبة الخرساء. فقدتُ معها السيطرة على توازني، وراودتني أفكار صبيانيّة شديدة التطرف والحماقة، وعمىً يطال القلوب قبل العيون، وأنا أتصور فناء الجنس البشري على الأرض، خدمة لأحلام مراهق مهزوز وكرمى لعينيّ فتاة أحبها وهام بها حد الجنون، لينعم ويستأثر وحده بالسعادة إلى جانبها بلا منافس أو غريم..!!

كانت داهيته في مشاعره المشتعلة العمياء وقصور إدراكه، كمهر فقد بصره وراح يتخبط على غير هدى، فيجتاح ما يصادف طريقه ويلهب خياله الجانح الموهوم، وقد أنهكه جنون الصبا وبَطَشَ بجسده الهزيل أنينٌ داخلي عميق. هكذا دهمتني مشاعر قيس بن الملوح، وجنونه على الطرف النقيض، بعيداً من عُذْرِيَّةٍ ليستْ أبداً في حكم *الأكيد!؟

ألم يكنِ المجنون يُمَنِّي نفسه بثغرها..؟ ويطمع بقبلةٍ تستجيب لنداء الجسم قبل الروح، وتُحَقِّقُ بعضا من هوسه ورغباته الْمَوْءُودَة، فتحمله بعيدا من معاناته مع الصَّبابة والجوع..!؟ وزاد طيني بللاً الأبيات التي علقت بذاكرتي وعصفت بعقلي، فضيَّعت رشديَ كله في متاهة عصر ابنِ الملوَّح، حينما خانه قلبُه بالتّوبةِ عن هواها وهو يقول:

“تعالي نعِشْ يا ليلى في ظلِّ قفرةٍ من البِيْدِ لم تُنْقَلْ بها قَدَمانِ
تعاليّ إلى وادٍ خَلِيٍّ وجَدولٍ ورنَّـةِ عصفورٍ وأيـْكَةُ بـانِ
تعاليّ إلى ذكرى الصِّبا وجنونِهِ وأحلامِ عيشٍ من دَدٍ وأمانِ
نَذُق قبْلَةً لاَ يعْرفُ البُؤْسُ بَعْدَهَا ولا السُّقمُ روحانا ولا الجسدانِ

مُنَى النفس ليلى قرّبي فاكِ مِنْ فمي كما لفّ منقاريهِما غَرِدانِ”

وطلال المدّاح

من أحفاد قيس بن الملوح

لامَسَ زرياب

في هذا الأداء البديع

وبلغ مرتبة صالح عبد الحيّ

من جيل العصر الأخير

ليذكرنا بأرخم الأصوات

ممن تضمنهم كتاب الأغاني

عبر تاريخ  الغناء والطرب الأصيل

https://www.youtube.com/watch?v=BdYpxe_tOl8

ومع نهايةِ مرحلة التعليم الإبتدائي، طويتُ في نفسي بعض الحكايا المؤلمة، وقلتُ ذاك عهدٌ من حياتي قد مضى؛  لكنني عدتُ مرة أخرى وألقيتُها بين يديّ الألماني العجوز، لكي لا تستفيق وتختنق في داخلي أو تتمرَّد عليّ وتكدِّرَ هناءة عيشي؛ فالانطباعات التي يتلقاها المرءُ في فجر حياتِهِ، تحفر مدى العمر آثاراً عميقة في القلب والروح.

إذ ذاك.. كانت تعوزني جرأة نادرة للحديثِ مع الفتيات.! وتحرجني الابتسامة لهن أو النّظر في عيونهن؛ بسبب الحرمان والتَشدُّدِ في التعاطي مع  المراهقين اليافعين. حتَّى تحية الصباح للفتيات كانتْ مربكةً تختنقُ في صدري ولا أبوحُ بها أبدا.! كلُّ ما كان يتصلُ بالإناث، كان يحملُني على الإحساسِ بالخوف والإثمِ والخجلِ والحرام.

كانت عُقَدُي معهن، تتجاوزُ تشدّد الأهل في التربية والتعليم، وعُقدَ عصا “الزّعرور” في يدِ المعلِّم الرسول. وهكذا تركتُ هامشا واسعا من الحرية لأولادي، ومسافات بعيدة تتجاوز مدى أفقي المحدود، والأباطيل التي انطبعت في وجداني وفكري، وهكذا أيضا أنهى جميعهم دراساتهم العليا في جامعات مرموقة، ومستويات تحصيل عالية بلا متاعب، ولكن دون أن تفارقني حسرتي على الماضي بمختلف مبادئه وأشكاله المباحة.. أو نواهيه.

وكانت تتولاني الغيرة والحسد ممن التقيتهم، حينما كنت أمارسُ عملا مهنيَّا في شركةٍ للنقلِ الجوِّي..؟ والشركة تستقبلُ يومئذٍ طلاَّبَ الجامعات، للتدريبِ في فصلِ الصيف، فيجلسُ الطلاَّبُ من الجنسينِ متلاصِقِين، لاتفصلُ بينهم إلاَّ سماكة سراويلِ “الجينز”. تدفعُ البنتُ بساقِها ساقَ زميلِها إن أرادتْ أن تثنيَهُ عن كلامٍ، أو تعترضَ له على رأي، وزميلُها يربِّتُ على فخذِها بكفّه دونما خشية.. أو ما يريب. ألا تستوجب هذه الحرية لعنةً على إبليس..!؟

وكنتُ في مثلِ أعمارهم تتولاني الكهربة، وأذوبُ خجلاً ووجداً أبْكم إذا مَسَّتْني امرأة..! تَبَّاً لهذه الحرية وصلتني متأخرة عن موعدها ألف عام. وتباً للحرمان في ذلك الزمنِ المتزمِّتِ المَقيت..! تَبَّاً “لبيت” المجنون ومنى النفس ليلى.. وقُبْلَتِه التي طالما سحرتني واستبدَّت بخيالي وألهبَته، وأسهرتني الضّنى وليالي الوجد الطويلة .

تَبَّاً لوجبات العصر السريعة التي لم أنعم بها يوما. ” تَبَّاً لسعيد عقل يوهمنا أن أجمل التاريخ كان غدا”..!؟ والتَّبّ الأخيرة لبكائية الأطلال، وهذا الموروث المرهق الثقيل.. حينما “لم أمشِ في طريق مقمرٍ، ولم تثب الفرحة فيه قبلي ولا بعدي”.. فلم أتحرر من أوزاري ومن عبء آثامي وأوهامي، ولم أثأر لنفسي من ذلك الزمن المتعنت اللعين.

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

والشاعرُ بالشاعرِ.. يُذكر؟

Read Next

لحظات رهيبة في سماء بيروت

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *