كنـت معهــــــا

كنـت معهــــــا...

 

قصة: نبيــل عــودة

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\وهم.jpg

 

أن​​ يعيدك تلاقي نظرات غير متوقعة،​​ إلى ما كانت تظن​​ أنه محي​​ من سيرتك وتاريخك،​​ تلاشى من​​ ذاكرتك واضمحل أثره في وجدانك، وأن يُحيِى​​ ذلك اللقاء الصامت، ما صار منسياً ثم الاندفاع بالنظرات للبحث​​ بلهفة​​ في القسمات والتعابير،​​ عبر لقاء فجائي بين زوجين من العيون،​​ فيعود المنسي​​ ببريق متوهج يتجلى​​ تماما بأبهى صوره، يكثف جوهره، يتجذر وكأنك تواصل ما كان بلا انقطاع، ويسيطر بلا مقدمات... بدفقه السحري على ذهنك، ومن شدة مفاجأتك وارتعاشك تكاد تطفر دمعة، ليست دمعة فرح بعد لقاء. فلم يكن بينكما لقاء، وليست دمعة حزن على فراق، فما كنتما في لحظات فراق، كان لقاء لم تشارك فيه سوى نظراتكما وأنفاسكما، ومع ذلك تمنيت​​ أن لا تؤول اللحظات الى انتهاء،​​ أن لا تفنى الدقائق،​​ أن يتوقف كل ما في العالم عن الحركة،​​ أن يتجمد الزمن.

 

كل​​ نساء العالم​​ تتشابه​​ في حياتك،​​ إلاّ​​ هي، تشابهت كل الاختراقات وبقي اختراقها سراً مكتوماً. تشابهت كل القبل وبقي لقبلتها طعم النبيذ المعتق، تجلس ضامة شفتيها، بهدوء رخيم، ولا يتحرك فيها​​ إلا عيناها المتنقلتان بين عينيك وبين​​ صحن الطعام. نفس النظرات ونفس الأناقة ونفس الجاذبية. هل عرفتك؟ نظراتها​​ ​​ توحي بذلك، وقسمات وجهها لا تقول شيئاً.​​ وربما تقول. ؟؟

 

أيقنت​​ أن الذكريات لا تعترف بالزمن، ولا​​ تستسلم للانتهاء، فوجئت بارتعاش​​ أطرافك ووجيب قلبك، وغبت مجبراً عما حولك. كنت موجوداً بجسدك وغائباً بذهنك، وها​​ أنت ترحل الى حلم بعيد تكتشف نفسك من جديد​​ لتفزعك كثافة حلمك.

 

أهو حلم يعتريني،​​ أم واقع غريب كالأحلام؟ كالسحر؟ هزتني المفاجأة ونقلتني من حال الى حال. كنت كمسافر​​ أضنته الطريق وأخذته بعيداً. أرهقته المسافات، تاه طويلاً​​ في المساحات، خطفه الحزن وتنازعته شتى الأمنيات والرغبات، كرب وفوضى رغم الحقيقة الواضحة، متيبس، تائه​​ في صحراء... وفجأة ينطلق الرذاذ الرطب الى وجهي ... التقطت​​ أنفاسي طالباً المزيد، وما كانت من وسيلة للمزيد الا نظراتي، فيزداد حلقي تيبساً وتزداد شفتاي جفافاً،​​ أزداد لهفة وأزداد لوعة.

 

من لي بقاهر​​ للزمن، يمحو​​ من ذاكرتي فراقها، ربما يعيدني​​ إليها، يعيدها​​ إلي لأغير ما جرى، لنغير نبض أيامنا ونعطي لما بقي من عمرنا وعشقنا رونقه المقدر، نستعيد أجمل ما في العمر ونواصله.. نجدد​​ العشق ونجدد​​ الوصال.

 

كنت​​ أظن​​ أن الزمان كفيل بطي ما كان. ينهي الرغبات ويبدد الأحلام. فاذا الزمان يخرُّ​​ صريعاً​​ أمام رحيق امرأة جعلت مني​​ غير ما​​ أنا.

 

زرعت في أحاسيسي رعشات قبلاتها، وملأت الهواء حولي بخمرها، بعبقها، برحيقها، بطعم النبيذ الفاخر المعطر بفعل​​ الزمن، يبعث بمجرد التفكير فيه خدراً لذيذاً يجري في الشرايين، يتدفق مع دمي لكل أطرافي ولا يتوقف...

 

لا أدري ما يراودني. أبحث عن استراحة​​ أرتب فيها نفسي وأوراقي ويقيني لأعود أتابع حلمي البعيد.

 

أهو حلم حقاً؟ ربما رغبات ضائعة؟ وربما أوهام؟ أو حقيقة لم تتم؟ عدم​​ تمامها يعذبك؟ وهل تقدر الأحلام​​ أن تحفظ رحيق امرأة ونشوة ابتعد بها​​ الزمن؟!​​ هل الزمن وهم؟ تخيلات؟​​ أم حقيقة موضوعية؟

 

انتهى كل شيء قبل عقدين ونصف العقد. من السهل قياس حياتنا بالزمن ومن المستحيل قياس ذكرياتنا بالزمن. الزمن معادلة قهرية لا تستقيم مع الحب. ربما يعتريني​​ ما​​ يؤهلني لكتابة نظرية عشقية في مفاهيم​​ الصبابة​​ والزمن؟ لكن رحيق المرأة لا يؤمن بالزمن، لا يؤمن بالمقاييس الثابتة... كم​​ أتمنى الاقتراب من ملتقى الرقبة بالكتف،​​ لأستنشق خمرة أنوثتها بعمق​​ وحرية. هل أنا في عالم ملموس ؟!​​ أم في زمن خرافي؟ هل يحد الزمن سحر امرأة ؟! هل يقضي على الاحساس بالنشوة التي كانت؟! وأقول لنفسي​​ إن الصبابة لا تؤمن بالزمن.

 

العاشق لا يؤمن بالزمن، لكن​​ شيئاً لا​​ يوقفه،​​ الزمن لا يتوقف. ربما​​ أنا بحاجة الى شيء من الإدراك؟! هل في الجنون إدراك؟! وهل في هذا اللقاء إدراك؟

 

تبدو الكتابة​​ أحيانا​​ عن المحسوسات غير المادية​​ عبثيّة​​ مستحيلة، وأن عالمنا المادي لا يعترف​​ إلاّ​​ بالموضوعات المرئية والملموسة، وأن خروجنا عن هذه القاعدة​​ يؤدي بنا​​ بعيداً نحو الغيبيات. لوهلة لم​​ أثق​​ أنها هي. ترددت غير أنى تأكدت من نفسي. هذه​​ تفاصيلي التي أعرفها.. تمتد يدي المعروفة لي تماماً نحو كأس النبيذ. أبيض يميل الى الاصفرار.

 

طعمه معروف لي ولساني يعتصر بتلذذ أخر ما تبقى من الرشفات، لا أشعر بقدميّ، لكني متأكد​​ بملكيتهما، هذه يدي اليسرى تسند ذقني وأنا مسحور من المفاجأة،​​ وعيناي ترفضان الابتعاد والتعقل،​​ ولا​​ إرادة​​ لي​​ في زجرهما، لكن ذهني يتلقى​​ وقائع اللقاء المرئية مما يثبت​​ أنهما​​ عيناي حقاً. تحسست رأسي متيقناً​​ أن موقعه لم يتغير. ربما​​ أنا بحالة هلوسة من فعل الخمر؟ ولكن الخمر لم تغدر بي في السابق،​​ ولم تتغير العلاقات المتوازنة بيننا. ها​​ أنا بالكاد تذوقتها وما حان الوقت لتفصح عن نفسها ملوحة زاجرة فأي خطوب تلم بي؟! أي طقس يعتريني، أهو طقس سكر​​ أم طقس الحب؟ أم السكر والحب بتعاون لا يعرف الخلاف؟! هل لي بشفيع يخفف حيرتي؟! يفرج كربي؟! يرشدني؟! تكررت النظرات وتشعبت الذكريات، أحياناً تبدو الذكريات كلمحات لا يمكن الوصل بينها.. كتناقضات من المحال​​ أن تشكل وحدة​​ كاملة، غير​​ أن يقيني التام​​ أن الحب لم يهجر جوانحي ... وإلاّ​​ ماذا تسمي الأحاسيس التي تدغدغني؟!

 

غرقت في نفسي لاستجلاء أنصع​​ ما يكون من ترابط للذكريات،​​ التي تعصف بي​​ أوراقها الكثيرة..​​ تنتشر​​ في​​ وجهي، فألهث وراءها لأجمعها في نسق صحيح وأعيد ترتيبها في​​ ذهني، ضفيرة وراء ضفيرة. هل كنت أتمنى لقاء بلا ميعاد؟!

 

هل كان اللقاء ضمن توقعاتي؟! خمسة وعشرون عاماً تندفع في لحظة لا تقاس بمقاييس الزمن المتعارف عليها. تتوالد من الأبعاد مشاعرٌ​​ ما كنت​​ أظن​​ أنها ستعاودني. هل​​ أكتفي بها ؟! وهل تستعاد أيامنا من التاريخ ؟!​​ أم نبقى رهائن​​ الذكريات​​ ؟!​​ ​​ لم يبقَ​​ لي​​ منها​​ إلا​​ أطلال من الأحاسيس لا تغادرني.​​ أخاف​​ أن تغادرني. ربما توهمت أنى نسيتها. ربما تناسيتها عجزاً​​ عن الوصول اليها؟ تناسيتها لتخفي هزيمتك؟ فجأة تكتشف​​ أن ربع قرن يفصل بينكما وأمتاراً​​ قليلة تبعدها عنك، قريبة وبعيدة المنال ... ربع قرن لم ألمحها ولم تلمحني. ها هي تجمعنا لحظة مجنونة كغرباء. لا يستطيع​​ أن يقترب أحدنا من الأخر ليتأكد بالملموس من صدق المحسوس.. ليتني​​ أعانقها ولو للحظة، أكون قد حققت مرادي في الحياة، قلت لنفسي الحب لا يعرف الاستقرار. لا أذكر أنى​​ لمحتها منذ تباعدنا،​​ أنا متأكد من ذلك. أنا واثق​​ أنها لم ترني منذ ودعتني بقبلة رطبتها دموعها وهل تنسى​​ تلك القبلة؟!

 

هل يتغلب الزمن على​​ حرارتها وملوحتها؟ هل يُنسى وجيب​​ القلب؟!

 

لم يكن فراقنا تنافراً.​​ إنما كان قراراً وحيد الجانب. قالت​​ إنه إدراك للمسؤولية. رأيت به​​ إدراكاً مشوهاً لحقيقة مشوهة، كان الأحرى بي التحدي. كنت مستعداً للتحدي ولكنها أصرت على الابتعاد. فالتزمت برغبتها. قلت لنفسي​​ إن الإنسان يحمل في داخله ضده.

 

كان التعارف بيننا سريعاً وغريباً​​ بلا​​ اجتهاد وبلا​​ مقدمات، بادرتني:

 

-أنت تشدني.

 

كانت تتوهج بجمال فطري،​​ أضافت​​ إليه أناقتها البارزة وحسن الاستعمال للأصباغ سحراً أخاذا.

 

لم​​ أفهم ما تعني بتشدني؟​​ ولكن بروز صفيّ​​ أسنانها المرتبين بدقة​​ من وراء انفراج ابتسامتها جعلني أفهم وأتغابى.​​ أربكتني بجرأتها. لم​​ أتوقع هجوماً بلا مقدمات.​​ أعترف​​ أنها نجحت بإرباكي كما لم يربكني أحد من قبل.​​ إرباك انقلب الى سعادة، ثم فراق ثم شقاء.

 

عرفتها في زيارة بيتيه لأحد​​ أصدقائي. كانت تجلس في الصالة​​ وتتبادل​​ الحديث مع مجموعة من الصبايا في​​ أمور لا أذكرها،​​ وربما لا أفهم منها شيئاً لو تذكرتها. بعضهن ارتبكن​​ لدخولنا فصمتن،​​ أما هي فواصلت حديثها بنفس الحيوية، بعد​​ أن توقفت​​ لحظة لرد التحية مرفقة بابتسامتها.. فراقبتها​​ بطرف عيني​​ دون إرادة مني. كان فيها شيئاً مميزاً لا تكتشفه بسهولة ولكنه يشدك. وجدت نفسي أغوص بما لا عهد لي به، لم أستطع مبادلة صديقي حديثه ولم يفهم ما يعتريني، ربما فهم وصمت، اخترقت أحاديث الصبايا​​ بلحظة مؤاتيه​​ (ومهارة)، قد تكون​​ أثارت شكوك صديقي لتحولي المفاجئ من الملل بتبادل الحديث معه،​​ إلى الحماسة بالحديث​​ إليها... وللأخريات. بدأ الاستلطاف من حيث لا أدري. حدث​​ التعارف من حيث لم أتوقع. النظر​​ إليها راحة، الرغبة بالتواصل​​ لا تعرف حدوداً. حين قامت لتذهب​​ مدَّت​​ يدها..​​ سلّمتُ​​ يدي بحماس ليدها ضغطت بلطف وصعقتني ب "أنت تشدني" ...​​ بصراحة وبلا مقدمات وبلا توضيح​​ إضافي.

 

قالت:

 

سأتصل بك لنواصل حديثنا.

 

قرصني صديقي​​ في​​ خاصرتي​​ فجفلت، انتبهت فابتسمت ولم تضف،​​ إنما استدارت لتخرج وراء صديقاتها،​​ وعدت لمللي من مواصلة الحديث غارقا بتوقعات وتحليلات سحرية.

 

بعدها التقينا كثيراً. ربما قليلاً. يتعلق بمفهومنا النسبي​​ للكثير والقليل ولكنها كانت لقاءآت كافية لتوحد ما بيننا. كانت الفعل وكنت رد الفعل المشابه والمساوي له بالقوة. تفاهمنا​​ أن الإعجاب متبادل وبنفس القدر وأن الاستلطاف تم واكتمل...فنعم ما حصل. قلت لنفسي​​ إن كربتي انفرجت​​ وأشرقت شمسي وهذه بداية​​ حقيقية لحياتي. سألت نفسي هل تبيع​​ أصلك الصعلوك​​ ومبادئك الملتهبة مقابل عشرتها؟! قلت لنفسي​​ إن​​ الصبابة هي الخمر والمبادئ هي الأمر... وهما مثل الليل والنهار، لا يحل الواحد مكان الأخر،​​ إنما يلتقيان في رقصة دائرية لا فكاك منها.

 

اندفعنا بعشقنا، غافلين عما تخبئه لنا الأيام،​​ وكانت وقائع حياتنا تتجلى بين لقاء ولقاء. كان لقبلاتها طعم خاص لم أعهده في مغامراتي الأولى، حتى توتري وهيجاني مختلفان، اكتشفت نفسي من جديد. اكتشفت​​ الحب من جديد. انتشيت، سحرني ما​​ أنا​​ فيه​​ وتمنيت دوام الشروق، تمنيت دوام الاستقرار وقلت لنفسي:

 

-   ما​​ أنا​​ فيه لم يراودني حتى في​​ أحلامي . وقلت: هذا منتهى​​ أحلامي ولن أطمع بامرأة غيرها.

 

 ​​ كنت​​ أريدها برغبة لا تعرف الحدود... قالت:

 

-   أعرف ما تريد ،وأنا​​ أريده كما تريده​​ أنت ولكني لست​​ غجرية.

 

-   الغجرية حارة حتى في الشتاء وحين ترقص تصبح مرغوبة أكثر.

 

-  لا​​ أعرف ما شدني​​ إليك. ربما هذه حماقة حياتي الأولى.

 

أضيفي​​ إليها حماقة​​ أخرى، لينزل​​ على قلوبنا الاطمئنان والسلام وأنا حاضر لأي ثمن تطلبينه.

 

قالت بشيء من الحدة والألم:

 

هل​​ أنا بغي لتفاوضني على ثمن لحبي؟!

 

قلت مخففاً من زلتي:

 

-لا تفسري كلامي بغير معناه.​​ أنا​​ أسير هواك...أصرخ مستغيثا ًللمزيد، فاحتملي نزوات لساني... لن​​ أتجاوز ما ترفضينه. ولكن الرغبة مجنونة...

 

 ضمت رأسي​​ إلى​​ منحدر صدرها تحت الرقبة،​​ فتمنيت​​ ألا يؤول الزمن الى انتهاء.​​ تفحصت بنظراتي معالم وجهها وامتداد الرقبة،​​ بين الذقن والكتفين،​​ محاولا المقارنة​​ بالأصل الذي​​ أعرفه.​​ أجابتني بنظرة تقول​​ أشياء ولا تقول شيئاً، أتستعيد هي​​ أيضاً ذكريات​​ أيامنا الملتهبة؟ تحتفظ بطعم قبلاتي؟ بانسلال​​ أصابعي بين خصلات شعرها؟ بتفحصي​​ مناطق صدرها المحظورة؟ كم تمنيت​​ أن​​ أكتشف بالرؤية ما ينتهي به انحدار الصدر،​​ وصدتني بقوانين عشقها الصارمة المتزمتة. كنت​​ أحاول​​ أن​​ أستجلي​​ بالعناق،​​ عن​​ طريق ضغط صدرها​​ على صدري، ما لم​​ أسْتَجْلِه بالرؤية المثبتة والقبض عليهما بالجرم المشهود. صبرت حبيبتي على جنوني فتماديت .. ولكنها وقفت بالمرصاد.

 

قالت لي​​ إن مبادئي الثورية هي تغطية ناجحة لعبثي. قلت وهل تنفي المبادئ الثورية الحب؟! قالت ولكنك عابث. كان حكمها غير قابل للاستئناف.

 

حددت المسموحات وأكدت الممنوعات. قلت بأني سأتقدم لطلب يدها.. فصدتني. قلت:

 

أنت​​ تدفعيني للجنون، يستعصي علي فهمك...هل هناك قيمة لحبنا الا بالزواج؟

 

أفضل من​​ أن تدفعني للندم..​​ أنت مغرور.​​ أنت طفل،​​ أنت مستهتر بلا تفكير؟

 

ترفضين ما​​ أؤمن به من​​ أفكار؟​​ ألم تجمع​​ أفكارنا بيننا؟!

 

ماذا تساوي​​ بلا​​ أفكارك؟! ولكن ليت توازنك كأفكارك، ليت تفكيرك كأفكاري.

 

أكرر اقتراحي... أريدك زوجة لي، الزواج يعيد​​ إلي توازني، يوصلنا للسعادة.

 

أنا خائفة !​​ أحبك وخائفة.​​ أقول لنفسي​​ إني​​ لن أستطيع​​ أن​​ أكون لغيرك، وأقول لنفسي​​ إن الحب سلطان كاذب، وأقول لنفسي​​ إن مصائرنا ليست بالضرورة​​ أن تكون محكومة​​ لرغبات نفوسنا. ربما ما بيننا هو طيشنا. هو لا وعينا.​​ أحبك وأخاف.​​ يهيأ​​ لي أنى​​ أرتكب حماقة. أتألم وأقع في حيرة. لا​​ أعرف كيف اندفعت ولا​​ أعرف كيف​​ أتوقف،​​ أتمهل لأستعيد تفكيري​​ وتوازني. يجب​​ ألاّ​​ نكذب على بعضنا. نحن مختلفان، اجتماعياً مختلفان. المسألة ليست بقدرتي على قبولك، ليس هذا ما يقلقني، ولكنك لن تقبل ذهنيتي الاجتماعية، لن تقبل​​ أجواءنا، لن تقبل صياغاتنا ولن تقبل خصوصياتنا.

 

واجهشت بالبكاء،​​ أخذتها بين ذراعي بقوة، لامست وجنتيها بشفتي. استلطفت ملوحة دموعها وحرارتها.

 

سأتغير ،سأتعلم​​ أن​​ أحترم​​ أسلوبكم... المهم​​ أنت. يؤلمني عذابك!!

 

ليس هذا ما​​ أبحث عنه.​​ أنا لم أخلق لما نحن​​ فيه،​​ أكاد أنكر نفسي أرفضها.

 

بدأت​​ أفهم ما يعتري فكرها. بدأت​​ ألمس خطئي في​​ الاندفاع العابث المجنون.. واعترتني كآبة وتوجس. كان واضحاً أنى رسبت في الامتحان. فهمت​​ أن ما شدنا الى بعض ليست رغباتنا. ربما​​ أوهمتها بفلسفتي​​ أموراً تبخرت. تلاشت مع العناق والقبلات، فلم يتبق​​ إلا الموضوع الصعلوكي، حتى في الحب قد​​ أكون اندفعت باستهتار​​ لإشباع رغبة مجنونة، فلم​​ أميز بين الحب وبين المتعة العابرة. وها هي تستعيد توازنها. تبكي وتستعيد​​ إدراكها. تحبني ولا تستطيع قبولي.​​ أستجديها فتبتعد أكثر. لأول مرة أتوجس​​ أن تتركني امرأة،​​ أن أبقى​​ بدونها. كنت​​ أركض من علاقة الى علاقة ومن رغبة الى رغبة، حتى وصلت​​ إليها، حتى​​ وصلت​​ إلي، فاتحدنا. كانت صريحة ومقنعة وساحرة في صراحتها.​​ أقامت حدوداً جغرافية لا​​ يجوز تجاوزها. وافقتها معتقداً​​ أن قدرتي وفني كفيلان باختراق المستحيل. كنت مندفعاً مغروراً، وها أنا​​ أدفع ثمن اندفاعي وغروري، رغم أنى لم أحب امرأة كما​​ أحببتها، وأعترف​​ أنني​​ لا زلت أحبها. وهل يكفي الحب؟! نظراتها تلتقي نظراتي ولا تقول​​ شيئاً. ربما تقول ما لا أستطيع​​ إدراكه. وبنظراتي​​ أتفحص مشدوهاً المساحات التي​​ أعرفها، وأحاول​​ أن​​ أطابق بين الصور الباقية في ذهني والصورة المتجلية أمامي.

 

وعلى حين غرة، وأنا غارق في توجسي من انتهاء ما بيننا، باحثا عما يزيل كربي ويثبت قربي​​ إليها، التفتت​​ إلي، وقالت بحزم طارئ.

 

أنا​​ أحبك ..أعترف.. ولكن سعادتي وسعادتك بالافتراق. عرفت هذا منذ اليوم الأول، ولم​​ أصدق حدسي...​​ لا تقل شيئا.. لا تزد حزني...​​ أريد​​ أن​​ أذكرك كما​​ أنت...

 

قبلتني قبلة طويلة حرارتها فوق العادة. نظرت بعيني، ثم طبعت قبلة​​ فوق جبيني، وتركتني وانطلقت دون​​ أن تنبس بحرف آخر. ولفني الصمت.

 

انتظرتها في المواعيد المتفق عليها، فلم تحضر، انتظرت بلا أمل ولم​​ أحاول الاتصال بها. وجررت نفسي بعيداً عن طريقها.​​ أتجرع وحدتي وألمي. اضطرب توازني وثقتي بنفسي عشت عذاب الفراق. زاهداً بما يحيطني، متحسراً على ما فقدت وحزيناً لانقضاء أجمل ما في حياتي. هل من وسيلة تستعيد فيها الذات ما تحب ؟! ما بدا حقيقة مجسمة تناثر بلحظة؟!

 

مضى​​ ربع قرن، خمسة​​ وعشرون عاما بالتمام والكمال. لم يفارقني حبها. لم يفارقني عبقها.

 

أريجها عطرها حرارتها، ملوحة قبلتها الاخيرة ... ولكنه انزوى في حنايا الذاكرة. حبي لها اكتمل ولكن رغبتي لم تكتمل، وما كان لها​​ أن تبلغ وتكتمل حتى لو وصلت لما​​ أريد .... كنت​​ أريدها ليس للحظة،​​ أريدها لكل العمر، ولما بعد العمر لو تيسر؟ علمت بزواجها وهجرتها مع​​ زوجها الأمريكي الجنسية والقريب... ربما هو السبب؟!

 

ها هي نظراتنا تلتقي، تقول​​ أشياء ولا تقول شيئاً. تصمت​​ ولا تصمت. كنت جالساً مع مجموعة​​ أصدقاء في مطعم غير بعيد عن شواطئ البحر في عكا ورائحة السمك المقلي الذكية تخدرني. فهو ملاذي بعد فقدانها، السمك والنبيذ الابيض المائل​​ للاصفرار. ربما فقداني لها بطريقة لا تختلف عن تملص السمكة من يد صيادها، جعلني​​ أنتقم من الأسماك...​​ أو أحبها أكثر. رفعت كأسي المليئة بالنبيذ الأبيض، مستنشقاً عطره الأخاذ، حين التقت عيناي بعينيها. كانت أكثر من​​ صدفة. صدمة شعرت بعدها بارتعاش​​ أطرافي وكأني أعود الى الماضي. وملأت الخمرة​​ أنفي بعبق​​ أنوثتها. ربع قرن وعبقها لا يفارقني شربت دون وعي.​​ أكلت دون وعي، وكنت مع​​ أصدقائي وبعيداً عنهم، كنت معها وكانت معي ... وكان بيننا ربع قرن ... وأمتار قليلة!!

nabiloudeh@gmail.com

 

 

للمشاركة

nabilawdeh

Read Previous

الملح الفاسد

Read Next

للأرض صلواتي

4 Comments

  • الأستاذ الكريم نبيل عودة

    “من حدودِ الأمسِ يا حلُماً ** زارني طيراً على غُصُنِ
    أيُّ وهمٍ أنتَ عشْتُ به ***** كُنْتَ في البالِ ولم تَكُنِ”

    كنت معها؛ متألق في وصف الحالة الوجدانية وعمق المشاعر

    كانتْ الفعل وكنتُ ردّ الفعل المشابه
    والمساوي و”المعاكس” له بالقوة
    هذا القانون الثالث في نظرية نيوتن

    Toute action a une réaction, égale et opposée

    أعجبتني الاستعارة العلمية في خدمة المشاعر

    (لا يعرف العنصرية والتعصب)
    لم ينشر سابقا في الروافد
    ووجدت من المناسب
    أن أنشر الجزء الثاني فقط
    كتعقيب على مسرحية (الملح الفاسد)

  • ليل الكأس والحب يأتي بالكلام الجميل..أبدعت والله

  • أستاذ إبراهيم يوسف

    أشكرك على كل ملاحظاتك وأنا منفتح دائما للنقد، ولا تحفظ عندي أبداً على أي راي سلبي أيضا؟
    بخصوص اللغة والقواعد؟ فمعلمتي للغة العربية كانت والدتي، حين رأتني منذ تعلمت أحرف الأبجدية العربية، وأنا غارق بلعبة خاصة بي؟ وهي جمع الأحرف من الصحف للوصول الى تكوين الكلمة .

    فكرست وقتها لي وفي الصف الثالث أو الرابع لم أكن بحاجة إلى كتب تعليم اللغة العربية، وبدأت أصوغ قصصا مقلدا التمثيليات، التي كنت أستمع إليها في الراديو. لكنني للأسف درست الثانوية في مدرسة عبرية، وبعدها درست سنتي هندسة في معهد هندسي بالعبرية أيضا، ثم انتقلت إلى موسكو في معهد العلوم الاجتماعية لدراسة الفلسفة والعلوم السياسية.

    ولذلك أخي العزيز أنا أكتب سماعيا ولا أعرف القواعد العربية. ونادرا ما أجد من يصحح لي لغتي قبل النشر. لكنني أعتقد أن لغتي هي لغة معيارية، ولا مشكلة عندي بصياغة الجملة الكاملة والمعبرة بدقة عن أفكاري. أشكرك. عندما أقرأ الملاحظات حول القواعد أشعر أنني اقرأ لغة لا أفقه منها شيئا!! ا

  • حبيب قلبي أستاذ نبيل

    غنيٌّ عن القول؛ وأنا واثق أنك تعرف بلا ريب؟ إنني أحبك وأحترمك فعلا.. لعلي أحبك أقل مما أحترمك؛ ليس هذا فحسب؟ بل أنا شديد الإعجاب بمعظم ما تكتب، وقد تعلمتُ منك الشيء الكثير.

    تعلمتُ منك أقلّه كيف لا أبترُ النهايات. ربما تركتُها مفتوحة على شتى الاحتمالات عن سابق قصد؛ لكن بلا بتر كما تعلمت. وتعلمتُ يا صديقي كيف أقلِّدكَ فأثير “الدهشة” في نهاية القصة.

    ومثالي على ما تعلمتُه منك؟ نصٌ عنوانه: “بالضربة القاضية”؛ توسلته قصة عبور إلى السنة الجديدة. أتمنى لك فيها مزيدا من الألق والإبداع؛ راجيا أن ينال النص اهتمامك حينما أنشره.

    أما اللغة العربية؟ فلا ضير عليها في الصواب أو الخطأ في الذَّم أو الإطراء، ما دام بعض أولي الأمر من العرب ينتهكون حرمة الأحياء والأموات. فما بالك بلغة تستخدم عشرين مفردة على الأقل، لتدل كل واحدة منها على “حُبٍّ” أضعناه، وعلى “خَمْرٍ” لا يتعاطاه إلاّ “الفاسقون الفجار”.

    وعلى “سَيْفٍ” طالما روّجنا له حتى سلَّطوه على رقابنا، وبات من أسباب علتنا حتى تقوم الساعة وينفخ في النفير؛ حينما جيَّرَه بعض أهل الأرض، للدفاع عن الحق المُزَأْبَق “ونصرة الدين الحنيف”. فلا تبالِ يا صديقي بالهفوات والأخطاء، تلك التي لا تنال أو تقلب المعنى.. وحسب.

    أما الحديث عن وداعة الأمهات؟ فمخزونه فائض لا ينضب من الذكريات، ولا مكان له في هذه العجالة من الكلام.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *