جريمة أسرية
بين محاولات التنشئة السليمة وتهميش حق الأبناء
نورا محمد – مصر
حدثتني صديقة ذات مرة عن أزمة تعيشها وتعاني من مفاعيلها منذ وقت طويل. لم تكتف الأزمة وتنال من هدوئها فحسب، بل هددت أمنها ومصيرها وأمعنت في قلقها وضياعها. والمؤسف حقا أن تكون أزمتها مقيمة في أرجاء منزلها وبين أفراد أسرتها! لكنها في فترة هدوء "وقعدة فضفضة" باحت لي بما يعتلج في صدرها من خوف وضيق، حينما لم تسعفها إرادتها فتنتصر على الأزمة وتتجاوزها.. أو تبوح بها لكي تهدأ ثورة الغضب في كيانها.
"أخاف الحديث عن أحلامي أمام والدي"
قالتها دفعة واحدة بلا تخطيط. ومن هُنا انطلقت في تفريغ طاقة غضب مكتومة كانت لتقضي على نبضات قلبها، لعل الفرصة المناسبة أدركتها أخيرًا لتتألم! ولكن بصوت مسموع دون كبت أو هرب من البوح بما في داخلها.
في تلك اللحظات من الخوف وعدم قرار المواجهة، أضاعت على نفسها كثيرا من الأحلام، فلحظات ردة الفعل غير المُجدي لا تسفر عن حلول، وطموح قيدته مفردة لا الرافضة التي لم تعرف سبيلًا حتى إلى أبسط رغباتها.
وأما النقاش عن الطوح فقد بات مرفوضا، لن تصل من خلاله إلى نتيجة تُرضي قلبها وعقلها. قلبها يأبى الوقوف أمام الأسرة التي ذاقت المُر على يديها، من أجل الحفاظ على براءة نبضاته، وعقل يستنكر واقعا مفُروضا دون أسباب منطقية مقبولة، فالرفض هو الرد الحاسم، الذي يعرقل طريقها إلى مستقبلها، لتراه قد انتهى قبل أن يبدأ!
قد تجد قصة اليوم قريبة منك من بعض الزوايا، لأن البيوت في الحقيقة مليئة "بالحكايات والروايات"، وأقتطف منها ما يستنفر الخاطر.. ويحمل على التأمل والتفكير. لا سيما وأن نتائجها ليست سهلة وبسيطة خاصة عندما تبلغ وتتجاوز حدود الفرار من المنزل، وقد غدت الحياة الأسرية في الغالب جحيما لا يطاق.
هذه السلوكيات ينبغي لها التقويم أول ما ينبغي، سلوكيات الرجل رب الأسرة نفسه حتى أصغر الأطفال. الأسرة التي تفتقر إلى نظام يحكمه المنطق والعقل، بدلا من الترهيب والترغيب وسياسة القمع. من هنا تكون البداية؟
- " مش موافق".. كلمة تقضي على العلاقة الأسرية في غمضة عين!
يعود نفور الأبناء من الآباء لأسباب عديدة يتلخص أهمها في "الخوف"، خوف الأهل على أطفالهم خاصة عندما يبلغون سن الرشد، ليستمر الخوف على فلذات أكبادهم ويسيطر على تصرفاتهم ومشاعرهم، فيشكوا الأبناء من السيطرة والاستبداد، وبالتالي المهانة وشعورهم بالخذلان. خذلان عدم التفاهم والدراية والاحتواء، حيث يرتمي الطفل في أحضان أسرته، منذ كان لا يفقه من دُنياه سوى كلمة بابا وماما. ثم بمرور الزمن تتكون لديه صورة خاصة تجسدها وتُرسخها أفلام "هوليوود" مثلا.. وغيرها في أذهان الفتيان والأطفال المراهقين من الجنسين، عن الأبطال وقدراتهم الخارقة، يرون فيهم المثل الأعلى فوق كل المخلوقات وأرفع الدرجات، مكانة لا يجوز الاستهانة بها، وبهذا يغدو الأبوان الملجأ الوحيد للأبناء أمام أفكارهم، التي غالبا ما تتسم بالتهور والاندفاع.
" ماما أنا نفسي أبقى رسامة"
-" لا هتبقي دكتورة زي بنت خالتك"
تبدأ المعركة وتتواصل انطلاقا من إمكانية الخروج من المنزل وحتى قرار الزواج، وكل الأمور محكومة بكلمة من الأسرة، فيتبدل الحال وتتغير مسارات الحياة، التي رُسمت في مُخيلتهم عما يرجون تحقيقه، بل ويعملون عليه بأقصى جهدهم، هذه وغيرها من مُنغصات العيش التي يراها الأبناء "حبل مشنقة" يحكم الأسرة لتخنقهم به. ولكن هل تم التدقيق في مردود هذه اللحظة على الأبناء؟ وقد تستمر لمستقبل كامل، والجاني هو مبدأ الرفض.
بعض أو أكثر القسوة في التعامل تدفع الأبناء إلى سلوك لا يتسم بالانضباط، ولا يتوافق مع الإتزان النفسي والعاطفي أيضًا، فالغالبية العظمى تجد أن الحل السليم يكمن في العزلة، فتتخذ الغرفة "حبسا انفراديا" لها ولأحلامها الجامحة، ثم تتجنب الصدام مع الأهل على أي مستوى من مستويات النقاش، ومن هنا تولد فجوة عظيمة لا يصلحها الزمن، وتعتبر اللبنة الأولى في بناء جدار فاصل، يقف عائقًا أمام مختلف أشكال التواصل، فتتعرقل وتتعثر سبل المحبة والأمان، وتنهدم الثقة المتبادلة مما يُهشم الثقة بالنفس لدى الأبناء، وينتج عن ذلك بطبيعة الحال تبعات خطيرة تؤثر على سائر أفراد المجتمع، ولا تقتصر على المستوى الشخصي فحسب.
يعتقد الآباء خطأ أن مفهوم الدعم يقتصر على الدعم المادي، الذي يضمن حماية الأبناء من صفعات الدنيا العنيفة التي لا ترحم إلا أصحاب المال، فتصبح حائط الصد الأول والأخير، بينما الدعم الحقيقي يتميز بمفهوم أشمل وأعمق، من مجرد ورقات نقدية هزيلة تتقاذفها ماكينات الصرف الآلي، أما الدعم المعنوي فيمنح الأبناء بطاقة عبور إلى الحياة، مهما اشتدت المصائب والمِحن، وهو ما لا يمكن استسقاؤه إلاّ من نبع واحد ذلك هو الأسرة.
ولئن جف النبع فتلك هي المأساة العظيمة! حيث تبدأ انحدارا أخلاقيا يتصاعد حتى يتعدى العُقد النفسية ويحتاج إلى "كونسلتو" لحلها، وهو ما يدفع لأفعال مُشينة لم تكن في الحسبان، كالتورط في الممارسة والفهم المغلوط.
- "لوي الدراع".. الحل الأخير أمام تسلط الآباء!
"عايزة أسيب البيت وأمشي بعيد عنهم"
هي مرحلة أخرى يصل إليها بعض الأبناء في نهاية مطاف علاقتهم مع محيطهم الأسري، فبعد محاولات كثيرة في فتح صفحات جديدة، وطوي صفحات الماضي وربما إتلافها بالحريق، تبدأ سلسلة جديدة من التنازلات التي يراها كثيرون طريق الخلاص الوحيد في علاقة عصيت على التصحيح، لتكون بمثابة راحة مؤقتة للأبناء من تحكم وسيطرة الآباء، وتصبح التضحية بالعلاقة أنسب افتراض للحل في النهاية المنطقية، فكيف يجدها الآباء؟
يتأرجح الفعل ورد الفعل بين الخضوع والرجوع عن القرارات الصارمة، التي لا تقبل النقاش فيُفضل بعض الآباء إعادة النظر، فيما أصدروه من أحكام أدت إلى تفاقم المشكلة، لعودة الإبن إلى أحضان الأسرة مع بصيص من الأمل في مُحاكمة عادلة، لا يجد نفسه فيها محكوما عليه بالإعدام، وهو لمّا يزل يمشي ويتحرك وعلى قيد الحياة!
أما البعض فيجد "العار" في هذا الفعل والتشهير باسم الأسرة ومركزها، خاصةً وضع الفتيات في مجتمعاتنا الشرقية، حيث يتحول العقاب انتقاما أشد وأدهى! وتسقط على رأس المتحدي أعتى ثورات الغضب، الأمر الذي يزيد الوضع حدة و تأزمًا، لتتفاقم المُعضلة وتمسي بلا حلول عملية. وهكذا تغدو الأزمات أشد تعقيدًا وصعوبة.
- صفر على الشمال
- " شوفت يا بابا أنا عملت ده كله لوحدي"
= " عادي يعني، عملتِ إيه جديد؟!"
أي مقابلة أو فعل يقوم به الأبناء ويواجه باستخفاف، إن هو إلا جذوة تندلع منها حرائق التوتر والنفور مما يشعر به الأطفال تجاه الأهل، في عدم تقدير ألم الشوكة ،التي تخز وتدمي الصدور، لتلقّي شدة الصفعة على يد المربين.
بلا ريب.. هو شعور مُرعب لا يعرفه إلا من مرّ به وعرف مدى قسوته، وهو ما يولد الغلظة والشراسة في نفوس الأبناء. لتجد أن بذرة الإهمال التي زرعتها الأسرة، قد نمت في قلوبهم ووجدانهم وتخطت حدوده الإنسانية، حتى يتجنب الآخرون الخطاب الممجوج الذي لا يجبر الخواطر، ولئن عدت إلى البداية ستجد السبب في توبيخ الآباء لأبنائهم، ما يظهر أثره على المدى البعيد، ويُشكل التحدي الأكبر لاقتلاع جذور الدونية من أعماقهم.
"أوعى تغلط"
كلمات تنحرف بالطفل عن مسار حياته الطبيعي.
قد تدفع المثالية المفرطة وتشدد الآباء، في تحميل الأبناء مسؤولية كبيرة ربما تتجاوز أعمارهم، بل وتتخطى حدود المعقول والمقبول، ما يجعل الأبناء يواجهون صراعا دائما بين ما يطمحون إليه، أو ما تؤول إليه أحوالهم.
ولا مجال للأخطاء ولو بنسب متدنية أو ضئيلة، لتؤكد انتماءنا إلى البشر ولا تسمح بالوقوع في عثرات قاتلة. لكن معتقدات بعض الآباء، "برمي الحِمل" على الأبناء خاصةً في سن الطفولة، وهو ما يضمن لهم قوة وصلابة في تحمل مشقات الحياة لاحقا، وما ينوء به الأبناء حقا، ويجدونه جبلا يتوجب عليهم حمله وحدهم، ولا خيار لهم في ذلك، فأما الموافقة أو إعلان العصيان على الأهل، ما يتسبب "بالبهدلة"، ليقعوا في قبضة الضغط النفسي والسلوك المشوه، وبناء على ذلك ينظر الإبن إلى الأهل نظرة مقت، ولنفسه نظرة هزيمة أمام إرادتهم.
- "هتعمل كده هنفذلك طلبك".. لُعبة يخرج الابن منها الخاسر الوحيد!
أكثر الأمور التي تسحق العلاقات الأسرية هي المساومة، كأن يرتبط تنفيذ طلب الأبناء "بالإصغاء للكلام"، الأمر الذي قد يحقق النتائج المطلوبة في بعض الأحيان، بل وقد يكون الأسلوب فعالا في التربية السليمة التي تهدف إلى التروي والإصغاء، واحترام كلمة الكبير وتنفيذ الالتزامات والوعود المقطوعة.
ولكنني أتساءل..؟ ما المُبرر أن تتلخص تلك العلاقة المهيبة في مساومات فارغة خفيفة؟ إذ كثيرًا ما تكون مهمة صعبة التنفيذ من الأبناء.. وبناءً عليه لا تتحقق تلك المطالب، التي ربما كانت أبسط بكثير مما طُلب منهم أو أوكل إليهم! وهُنا تبرز مشكلة أخرى مستجدة، تبدو في عجز الأبناء عن البوح برغباتهم وإمكاناتهم، خوفًا من الإطاحة برغبات عصية على التنفيذ! فيسود الصمت والعجز وتنشق القلوب واسعة، لتبتلع أمانيهم ومطالبهم البسيطة.
لئن كانت كل فتاة بأبيها معجبة؟ فهل الأب فعلا صديق الفتاة الأول؟ وهل يكون وفيًا لها أم أنها صداقة كاذبة؟
تقول إحدى الفتيات: "لا أصدقاء لي، عشت عمري أبحث عن صديقة مخلصة فلم أجد، حتى فقدت الأمل في العثور على عقل يستوعب كلماتي دون ضجر مني، وأما أسرتي فلم تمنحني الصداقة الكافية، كل ماكنت ألاقيه الصوت المرتفع يصرخ في وجهي، كلما حاولت تحرير مطالبي من سجن عجزي، واليوم أصابني الخرس.
الأب، هو الصديق والحبيب الأول في حياة ابنته، وبه يمكن لها أن تُغلق دائرة مشاعرها عليه، لأنه الحصن الآمن تلجأ إليه عندما تدهمهاعواطفها الجياشة، وقد لا تكون واعية ولا متزنة في فترة ما خلال مشوارها في الحياة، ولا تختلف عن أي فتاة تمر مثلها بفترات متقلبة، في تكوين مشاعرها والوعي لنقاط قوتها وضعفها.
ماذا لو لم يلعب الأب دوره في هذه الحالة؟
هي مأساة أخرى باحت بها كثير من الفتيات، اللاتي يُعانين من جفاف عاطفة الأب، ويتمخض عنها منهج إيجابي آخر، وعُنوانه العريض "الولاد أصحابي"! الأمر الذي يعقبه تنازلات ونتائج ربما ليست حميدة دائما تقع فيها الفتاة، نتيجة عاطفة غير متبادلة على النحو السليم، ما قد يدفعها للتنازل بالموافقة على قبول زوج يكبرها عُمرًا، وذلك لأنها وجدت فيه ملاذا وحضن أب افتقدته أو تخلى عنها طويلًا، فينتج عن هذه الزيجة التي لا تستوفي عناصر النجاح سلبيات لا تُحصى، والأب هو المُتسبب الأول في هذه الجريمة، حينما لم يفتح قلبه لسلامة صغيرته.
- نهاية ما بدأته الأسرة، هو البداية لحياة نفسية مستقرة للأبناء.
وينتهي الجدل بولادة جديدة في العلاقة التي تتضافر وتربط عناصر الأسرة ببعضها، العلاقة التي تُقيد بضوابط يعتبر الخروج عنها خللا ببعض ماهية التربية، والأسرة غير المتماسكة لن تستمر على نحو سليم، ما لم يكن الأبوان قد التزما بسلوكيات تربوية محددة، تختلف باختلاف طبيعة الأسر، لتبقى المبادىء واحدة لا تتجزأ وأولى رسالاتها جيل سوي لا تعرقله المتاعب والألم، ويظل اللجوء للأسرة مهما كانت الظروف القيمة المثالية المرجوة.
"وهكذا يبقى البيت هو البداية والنهاية"، فقد يتوقف عليه صلاح أمة من الأمم، أو نهاية الإنسانية فيها.
التعليقات الحديثة