منارةُ الجزيرة تضيءُ
على كابول
مدينة.. في مهبِّ الرِّيح
إبراهيم يوسف – لبنان
https://www.youtube.com/watch?v=zt35YwrP_0M
مشتّتون، مضيّعون على الدروب
صُفْر السواعد والقلوب
الجوع كُلُّ ندائنا،
والرّيحُ بعضُ غطائِنا
حتى الصباح يفرّ من آفاقنا،
ويغيض في أحداقنا
أقلوبنا، رفقاً بنا، لا تهربي
وتقحّمي عنفَ المصير
في الجوع، واليأسِ المَرير
"من بدايات أدونيس"
حينما لا تجري رياح المتنبّي وفق ما يشتهيه شراعه؟ ينبغي للشراع أن يتمسك بمقاومته في مواجهة الريح. أليست هذه شريعة المعركة المتكافئة بين الجانبين؟ حتى يرفع المنتصر أو المهزوم راية نصره أو استسلامه.
من هول ما يجري حولنا ولشدة ما نالنا، من استبداد وفساد وقلق وإحباط ومرادفات لا حصر لها، ضللنا الطريق وتواصلت أوجاعنا ومعاناتنا، لزمن طال أكثر مما ينبغي أو طاقتنا أن نتحمل. حتى وجدتني مقهورا في مهب الريح، أتجول مع قناة الجزيرة بين خرائب المدن المقهورة، فأرى في كابول صبيّا يجرف الثلج عن سطح بيته بتكليفٍ من أبيه. وكان أخوه الأصغر بجانبه يشكو شدة الصقيع، حينما حمله على ظهره وانحدر به إلى المنزل.
ثم حَدّث نفسه بصوت مسموع فقال لها: أبي أوصاني قبل رحيله أن أعتني بأمي وأخي، وحذّرني من المناطق المزدحمة وخطر الانتحاريين، وأوصاني أن أروي الأشجار التي تعب في غرسها فلا تيبس. تأملني طويلا قائلا: العائلة تعتمد عليك في غيابي بصفتك الكبير، فلا تدع أمك تذهب للسوق وقم بشراء ما يلزم من الحاجات بنفسك.
اطمأن لسلامة أخيه تحت السقف وعاد ليكمل عمله؛ وما إن انتهى من جرف الثلج عن سطح "خربته" في أعلى مكان من المدينة، حيث تشرف على ركامها المُطَيْشَرِ المتناثر. وقف رَجُلُ البيت مزهوا بنفسه يناجي جمال مدينته. يغني لكابول أجمل حواضر الدنيا! يا سبحان الله! الخربة تتحول إلى فردوس!! "والنملة تعتزُّ بثقب الأرض".
ثم يقف عالي الرأس مرفوع الجبين يناجي طائرته الورقية الصفراء، يتوسل إليها أن تعود فلا تغادر البيت إلى الحرب لئلا تموت؛ فمن ذا الذي يا ربي يُغَّنِي للكهولة والطفولة المعذبة الموؤودة عندنا في أم الشرائع بيروت؟
أين الطفل من أفغانستان ولبنان، أو من اليمن وكان سعيدا ذات حين؟ فلم يبق منه إلا الجلد والعظام، والذباب الازرق يحوم فوق عينيه البارزتين يستعجل موته، والطفل يزحف على بطنه ومرفقيه لينال حصته من الغذاء.
الطفل يزحف وصوته يختنق في صدره فلا يسعفه ليغني مع ماجدة ونزار: يا ست الدنيا يا بيروت، من باع أسوارك المشغولة بالياقوت؟ من كان يفكر أن نتلاقى وأنت خراب! من كان يفكر أن تنمو للوردة آلآف الأنياب!!؟
كنت في أول شارع ال Maternité وبداية طريق الشام، التي تؤدي إلى اليسوعية جامعة للطب في بيروت. الدار التي انتهكوا أمومتها واغتصبوها من الداخل والخارج. وينتهي الشارع إلى المتحف الوطني، والطريق التي سلكتها لا تنتهي إلاّ في دمشق الشام على أبواب عاصمة الأمويين. لئن لم تكونوا أحرارا من أمة حرة؟ فحريات الأمم عارٌ عليكم". فكيف يكون لنا متحف جليل وتاريخ مجيد! البلاء يَسْتُرُ دولتَنا وحكامَها بَهْدَلُونا في عين الأمم.
مررت بأول الشارع وإلى يساري سور مقبرتين؛ أولاهما مقبرة لليهود ومعظم الموتى فيها كانوا يقطنون وادي أبو جميل، ومع مرور الزمن صار الوادي جزءا من ميراث آل حريري، "وسوليدير" الشركة العقارية التي أنشأها هؤلاء على مساحة وسط المدينة بكامله، حيث أقيم بجانب ساحة الشهداء مسجد محمد الأمين بتمويلهم، على أرض يحوم الشك حولها بالحرام، وإحدى قريباتي هَزَمَتْها سوليدير ووقعتْ ضحية استغلال ثغرة في القانون.
هكذا استولوا بالحيلة على محل لها وسط المدينة، كل ميراثها من زوجها أحد ضحايا الحرب الأهلية، ليس بعيدا من بيت الوسط حيث يقيم الحريري الإبن الذي انسحب من الحياة السياسية، بعدما انهار اقتصاد البلاد والعباد.
هكذا أكملت طريقي إزاء مقبرة اليهود، ممن عرفوا إبان وجودهم في لبنان بنجاح تجارتهم، وقبل أن أتجاوز دار الولادة الفرنسية؟ مررت بمقبرة للنصارى، واستوقفتني لوحة نحاسية داكنة بفعل الزمن، وعليها كتابة فرنسية تقول: في هذه المقبرة ينعم بالسلام سبعة عشر جنديا ألمانيا، ممن قاتلوا واستشهدوا في الحرب العالمية الأولى.
أليست هذه من المفارقات والمقارنات المؤلمة عن الحرب ؟! فمن سيحصي ويُدَوِّنُ في سجلات العالم قتلانا خلال الحرب الأهلية 1975 وقتلى "ثورة" 1958، ولو عدنا أيضا إلى الوراء من سيحصي قتلانا في مجازر1860؟ وبعد تلك الحروب.. من يثأر لنا ويحصي ضحايانا في قانا، وشاتيلا والمرفأ منذ وقت لم يمض عليه زمن طويل.
هل تجدي خاتمة المشوار مع ميشال طراد "وإنت وأنا، ما بيلتقى مرات عِنّا رغيف، ومنعيش بأطيب من الجنِّي"؟ وحده ميخائيل نعيمة وكان له شأن في مهب الريح، وسليم الحص وله شأن مختلف. وفيروز وصنين ونهر العاصي، ووادي البقاع والنبي ساما، وكميل مبارك وأحمد شبيب، هؤلاء جميعا براء من دم الوطن المسفوك.
4 Comments
اسم ” كابول ” حملني إلى رائعة الكاتب الأفغاني خالد حسيني..الرواية الإنسانية والاجتماعية والسياسية المؤثرة “عداء الطائرة الورقية”، والتي انطلقت من كابول إلى كل العالم.
الرواية تستحق القراءة، وتم تحويلها لاحقا إلى عمل سينمائي جميل ومؤثر يحمل العنوان نفسه، وقد لاقى نجاحا كبيرا باهرا يستحقه.
كل رجائي بالسلام والأمان والطمأنينة لكل العالم وكل القلوب.
عزيزتي إيناس
المعاناة وأسباب التعاسة والفاقة والشقاء
كلها من دواعي الأفكار الجميلة والإبداع
وهو ما كان من شأن الطائرة الورقية تحلِّقُ
في فضاء كابول مدينة الفقر والحرمان
لتتحول إلى رواية مميزة وعمل سينمائي
عرف طريقه إلى النجاح.. شكرا لك إيناس
ردَّني النص عن كابول في مهب الريح وذكرني “بشربات جولا”.. تلك الطفلة الأفغانية التي لم يكن قد تجاوز عمرها يومئذٍ الثانية عشرة ربيعا، عندما أسرت العالم بفتنة عينيها الخضراوين اللتين لا شبيه لهما.
الجمال الأخّاذ والطاقة الهائلة المنبعثة من وجهها وعينيها، هبة خالصة من الله تجسدت كلها في هذه المخلوقة التي اقتربت من صفاء الملائكة، فاستحوذت على القلوب وأسرت العيون بسحرها، وأصبحت واحدة من أشهر صور الغلافات منذ الثمانينات، حتى أن هناك من ظلمها وقلل من قيمتها وهو يُشَبِّهُها بموناليزا الأفغان.
وهكذا بعد سنوات من عمر الزمن؟ عاد المصور إيَّاه ليس إلاّ ليبحث عن شربات جولا. دأب في التفتتيش عن أيقونته حتى وجدها وقد تحولت إلى أرملة وأم لاربعة أطفال، بعدما نالت سنوات العمر منها بشدة محزنة، وظهرت عليها إمارات البؤس وقسوة حياة لم ترحم غيرها لترحمها.. فاختفى بريق عينيها الخضراوين ونضارة وجهها وجمال محياها.
أما وقد عثر أخيرا عليها مُلْهَمُها؟ وخاب رجاؤه من شدة المرارة بعد طول التفتيش لما صارت إليه حالها، وما باتت تخفيه من حزن وراء عينيها، وقد توارى بريقهما بفعل الزمن والظلم والحرب وطول المعاناة.
شربات جولا التي أطلقوا طويلا عليها فتاة الغلاف، وموناليزا افغانستان.. كانت رمزا لمعاناة الأطفال جراء الحرب ومعاناة شعوب بأسرها. لم تكمل تعليمها ولعلها لم تتعلم على الإطلاق، ولا رحمها الزمن لتحتفظ إلا بالقليل من جمالها. إلاّ أنها في المحصلة واجهت حظا عاثرا، وأكسبت مصورها الشهرة العالمية التي تستحقها.. ويستحقها معها.
الصديقة الكريمة… دينا تلحمي
هذه علامة إيجابية عن رجاء لا ينبغي أن ينقطع أو يتوقف
وأنت تتذكرين “شربات جولا” في الحديث عن أفغانستان
ممنونك على مرورك العاطر الطيب.. كوني دوما بخير
Comments are closed.