نهاية الزمن العاقر من جديد

نهاية الزمن العاقر

من جديد

 

نبيل عودة

 

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\الانتفاضة.jpg

 

 

 

الانتفاضة التي تشتعل هذه الأيام في الأقصى والشيخ جراح، وتمتد إلى كل المناطق التي يسكنها أبناء الشعب الفلسطيني. أعادت الى ذاكرتي أول قصة​​ كتبتها بعد انفجار الانتفاضة الفلسطينية الأولى - انتفاضة الحجارة 1978!!

 

دوامة

 

مضى عقدان من الزمن وبطنها قاحل. تناثرت الأقاويل وكثر التساؤل. صارت في الحلق غصة، في جمال الحياة كدر، في صفاء الجو غيوم، في هدوء البال توتر، وفي نظرات الناس حدّة.

 

وهيب زوجها​​ يعود من عمله ولا يبخل على زوجته، يراوده الأمل. كل عسر يليه يسر، لطفك يا ملطف، الثمر يمتنع، النوار لا يبان، العود أجرد.

 

يبتهل بحرارة لمن في يده الحل والربط. يتعامل مع ضغط الأيام، يهرب من ضغط الألسن. ما بقي صاحب ضريح إلا ووصلته حصته. عدل في الزكاة وزاد. لف​​ على الوسطاء والمشعوذين، حتى كاد يطق من التجوال.

 

قالوا إنها مصابة بالعين. سلسلوا الحكاية من وقت تعارفهم فوجدوا ألف سبب، ما نفعت الحجب في هزم أي سبب. أخذها عند أحسن الشيخات بعد عجز الأطباء الواضح، ما بقي طقس بلا تجريب. بشروه بالخير وبقي العسر ماسك.

 

احتارت​​ نفسه، اجتنب الناس ابتعادا عن تساؤلاتهم. عيونهم فيها غمز. تساؤلاتهم تفجر غضبه.

يسرك يا رب. هل يطلق من داخ في حبها ؟! يتخلى عمن مات صبابة في القرب منها ؟! أيبتعد عن التي يسرح وجدانه كلما قربها لنفسه ؟! عشرون سنة من الاندماج الحسي والذوبان العاطفي تنتهي بكلمة​​ غبية ؟! آه من غدر الأيام وخيانة القلوب. آه من شطحات العقل.

 

عشرون سنة من اندماج الذاتين في ذات واحدة. يرفض التشاؤم، يقاوم سوداويته، ينتظر البشارة بصبر، يلتزم بأمله، يناجي أحلامه، يواسي نفسه بالصبر وينتظر الخبر الممتنع... يترصد الحلم الذي لا يجيء.

 

قالوا:​​ " الصبر ثم الصبر " فاحتار، حتى متى الصبر؟! " الصبر سلاح المؤمن المتيقن!" أما الايمان فالحمد لله، لكن اليقين معدوم.. والإحساس بالخسارة مرير.

 

تتوالى الأيام، تتناثر الآمال، يتوالى الحديث، تتلى الحكايات، يتجدد الأمل، يتبدد الأمل، يتعلق بحبال الأمنيات، ينال منه اليأس، يوغل في الأمل، يتحلى بالصبر، ينهزم اليأس... هذه طبيعة النفس البشرية، مترددة، متقلبة ولكنها على العموم تتفاءل بالخير، تطفح بالأمل وهي في ذروة العسر والامتناع.

 

كان محتارا في نصيبه، يحاول أن يفهم الحكمة في قدره، يقوى يقينه أن يكون فرج بعد شدة، فرح بعد صبر، طفل بعد انتظار، لا بأس بطفلة ...

عقدان كاملان لا يعرف كيف عبرهما. عشرون طويلة بأيامها. حتى الصبر صار علقما. ثبت في طريق الأمل ولا يزال. كانت تشعر برغبة زوجها، يسود عالمها من عجزها البين في تطييب خاطره. كان حبيب نفسها يحزنها صمته. وكثيراً ما رجته​​ أن​​ يطلقها، أو أن يأخذ عليها زوجة أخرى تحقق له ما تصبو اليه نفسه. تعطيه من بذره ثمرة.

 

رفض كلامها وزجرها. أبدى لها من العشق ما حيرها في أمرها وزاد من شعورها بالنقص والتقصير. لم يوفر جهدا في إظهار حبه، كان يطمئنها بحنانه الطافح، ترتاح لعواطفه الجياشة، يمنحها من عناده بصمت وصبر، مدداً يشد أزرها ويجدد الأمل في نفسها.

 

عناد

 

قالوا إنها مرعوبة، مدد من الرعب. فاحتار في الصلة بين ارتعابها وعقرها، هل يبقى الرعب قائما عشرين حولاً؟ قالوا لا يحل رعبها إلا أمر بيد الخالق. فاحتار في تأويل شكل الأمر؟

 

متى يحين وقته؟ متى​​ يحل لطفه؟ هل سينتظر فوق العشرين سنة؟ الزمن يهرب من بين يديه والمرأة حين يتقدم بها العمر تصبح كالأرض الصحراوية، زرعها لا يؤتي ثمرا. والسماد كالزبد يذهب جفاء.

 

فكره مشغول بها كل نهاره، تعذبه المعضلة، يضنيه الأمل، لا يرى حياته بدونها، يرتاح لحبها ووجودها بقربه، ينفر من دنياه إذا ابتعدت بالخيال عنه، يرتعب من أحلامه إذا خلت من طلعتها، تتسامى ذاته بقربها، يتجدد عزمه بعناقها. كانت تحمل له من المشاعر على الأقل مثلما يحمل. تبتهل لربها أن يبعد بغتات الأقدار، أن يطيب خاطر رجلها بعد صبره الطويل، تنوء بثقل عجزها، ما هي​​ خطيئتها؟ تتعامل مع الواقع بنفور، تهرب من الناس، تسر لكل طفل تراه وتبكي حظها بحرقة.

 

ظهور البلية

 

تزوجا قبل دخول الاحتلال بليلة واحدة، فحلت دخلتهما مع دخلته، حاذت نكستهما نكسة عربهم. قضيا أسبوعا قاسيا، تشردا في الخلاء هربا من القتال الذي حاذى قريتهما. البيانات المذاعة أوصلتهما لوطنهما السليب، حقيقة ما جرى أذهلهما، شملتهما الصدمة، أغرقهما العار، أهاجت الذكريات رعبهما، هو أيضا ارتعب، البلد كلها ارتعبت، مدد من الخوف والرعب، طوفان من العار، تناثرت أحلامهما، انقلبت​​ موازين الواقع وحدوده وتاه الإدراك. اعتراهما اليأس، واجها واقعهما أشبه بالضائعين، توجسا من ظواهر الأشياء وحذرا بواطنها ...

 

مرت الأيام، بدا الناس يعتادون على الواقع الغريب... استحوذت عليهما مشكلتهما، ولت العشرون سنة، يصعب عليه تصديق ذلك. عشرون عاما؟! كيف مرت بغفلة من الزمن؟! فقط بالأمس جرت المعركة هنا​​ بمحاذاة القرية، قبل ذلك بأسابيع كان يلاحقها في شوارع القرية وحاراتها ويبث لها لواعج عشقه وغرامه. لا يزال يشعر برعشة الحب الاولى، بتوتر العناق الأول. عشرون عاما لم يفكر بما يحيطه عداها، لم يقف على شواهد الأحداث، يتأمل ما عاناه من وحشة، يتذكر صبره الطويل الممتد حتى الساعة، يكره تلك الأيام، حتى لو لم تكن السبب في معاناته. في رأسه هدف لا يمل من السعي نحوه، لا يفرط بحبه، يواسي ألمها الواضح، يحنو عليها، ينسيها قساوة القدر، عبء المعاناة وجهد الصبر.

 

دخائل

 

أنت حبي ، أنت عالمي .. بدونك أذوي.

كان لا يمل من بث لواعجه، لم يخدعها بحقيقة مشاعره، حبه لها أصيل، ظلالها مطبوعة في نفسه، رحيقها يسري في دمه سلسبيلا وأمنيته بطفل من صلبه تتلاشى حين يحتضنها. هي تضطرب وكأنها المرة الاولى، تصمت مصغية الى دبيب أنفاسه، حيرتها تعذبها، عجزها عن تحقيق أمنيته يشعرها بالخذلان، يتفجر الدمع من مقلتيها ولا تنسى نفسها إلا حين يلج جسده بجسدها، فتصل لقمة نشوتها، ترجوه أن يأخذ عليها من تستطيع تحقيق أمنيته فيردها خائبة:

تطلبين البعد وأنت في قمة القرب؟

أشعر بالخيبة والقصور.

ما عليك، الموضوع يخصني فلا تلجيه.

ويخصني.

احتضنها بقوة، ضغط​​ عظامها بين ذراعيه، ضغطت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان وهمس بإذنها:

حبي لك هو الجذور، أنا أحبك لنفسك، لذاتك، أحببتك لأنك أنت، لا تخلطي بين مشكلة الحبل وحبنا، حبنا قدس الأقداس  فهمت؟

شهقت والتفتت إليه بدموع ملء وجهها:

أكره نفسي لعجزي، أريد أن أعطيك شرف الأبوة، الرجولة تكتمل بالأبوة.

أصمتها بقبلة وهمس بإذنها:

أنت دنياي ولا يهمني بعدك شيء.. لا الرجولة ولا الابوة.

فتحت فمها لتقول شيئا فزجرها:

اصمتي ولا تعكري ليلتي .

 

سطوع الأمل

 

يرنو إليها خلال تجوالهم بين العيادات، يرى تنامي قنوطها واكتمال​​ تصميمها. يحاول أن يرى حياته بدونها فيعصره الألم. تتسرب الشفقة الى نفسه، يود لو يحتويها بذراعيه، خوفا من فقدانها ولو بالتأمل.

 

صرف كل ما طالته يده من ثروة، كان الكلام يبعث الأمل، يجدد الحوافز والواقع الملموس يبدد ما يتجدد من أمل.

 

ما دام هناك بصيص من نور في​​ كلام الأطباء فالتعلق واجب. حلاوة الكلام تطرب، شرحوا لهما أمورا لم يدركا كنهها، لم يفقها مضمونها إنما بهرهما إطارها. تلاشى التشاؤم وبدأت دغدغة الأمل من جديد. للحق نقول إن وهيب ما زال حائراً بين حلاوة الكلام وصعوبة التصديق، اعتاد على الفشل. عشرون عاما من المحاولات، عشرون عاما من الأمل المتجدد والفشل المتكرر. لكنهم اليوم يتحدثون عن مشكلة معروفة علميا وطريق مجربة وأمل كبير، النفس طافحة بالرغبات والحياة بلا أمل مستحيلة. لم يخبرهما أحد ان العجيبة ستحدث. تلك كانت أيام المسيح وقد ولت، قالوا نجرب نحن متأكدون من النجاح. عاد الأمل ينبض بقوة، تجدد الشباب.

 

الإنسان موضوع محير، عشرون عاما من التعثر وراء الآمال تلاشت بعد سماع كلمة حلوة مبشرة، رب يسر ولا تعسر، أعطنا من لدنك قوة، لا تزغ قلوبنا، هبنا من رحمتك وصبرك، رب تمم بخير.

 

ترى ما يدفع الإنسان للأخذ بالتفاؤل والدلائل تعطي النقيض؟ الأمل الجديد شحنه طاقة، مده بالصبر، حرك أحلاما قديمة، هاجت نفسه بلواعج الحب وماجت بالحنان.

 

أيجوز أن يكون لقيام الساعة ليلة دخلتهم، سبب لما هما فيه؟

كان يرتقب أجوبة الفحص الأخير مشدود الأعصاب، محاولا التمسك بهدوئه النفسي، متيقظا ألا يشعر زوجته​​ بصدمته فيما لو ظهرت النتائج سلبية. كانت هي الأخرى تنتظر النتيجة وكأنها قرار المصير، الإعدام أو الحياة. أعصابها متوترة مشدودة، تحبس دموعها عنوة... تتمنى أن يتجمد الوقت بحيث لا تحل ساعة الصفر، تعاني من ثقل الدقائق ويتضخم الوقت في مشاعرها، تهرب نظراتها من نظرات زوجها، تعرف ما يعتمل بنفسه ولا يخدعها المظهر. منذ دخل الاحتلال في ليلة دخلتهم وهي تعيش هواجسها ومخاوفها، تصارع مصيبتها، ترزح تحت أرزاء عجزها، تلوك الألسن سيرة جفافها، لا تعرف ما الصلة بين عقرها وبين الاحتلال، لا شك طالع نحس. سرقتها هواجسها من الزمن ومدت​​ بها بعيدا ولم تنتبه على نفسها الا وزوجها يضمها كالمجنون صارخا:

المعجزة !!

 

أول الغيث قطرة

 

حامل... لهذه الكلمة أكثر من معنى ولها أكثر من نتيجة، تشمل أكثر من أفق، تتسع لعالم كامل متكامل من المشاعر والرغبات والأحلام والانبعاث والتجدد، هذه الكلمة قلبت كل​​ نظام حياتها، أعطت لعالمها رونقا جديدا، ربما لأول مرة تضحك على راحتها وليس مجاملة. لأول مرة تسابق جاراتها لإلقاء تحية الصباح ودعوتهن لفنجان قهوة الصبح. بدأت تلمس أنها تعيش في عالم مليء بالقيم والعلاقات، أين تاهت كل هذه السنين؟ كيف لم تشعر بما يدور حولها؟ هل حقا ما زال الاحتلال قائما؟ لا تعرف لماذا ارتبط الاحتلال بما مر عليها. أبسبب المعاناة الخاصة التي جاءتها بعد الاحتلال؟ كم يؤلمها سقوط الضحايا من الطلاب والطالبات، قد يكون الدم النازف دم ابنها، قد يكون دمها نفسها، ترتبك سعادتها، تخاف على جنينها، يقلقها مستقبله. متى يتغير هذا العالم؟ متى يتجدد؟

 

كانت الحركة تزداد في أحشائها. الفحوصات الطبية تؤكد أن الجنين يتطور بشكل ممتاز. بهرها ضوء ساطع. هزتها السعادة وزغردت فرحا ومن وجنتيها سطع ألق الرضا. أعطنا من يسرك خيرا، بشرنا بالغيث وخذ عنا الغرباء ومدنا بلطفك، مدد من​​ خيرك، ادحر الآثمين القاتلين، قوِّ

​​ سواعد شبابنا، قو يقينهم، مد لهم العون في وقت الشدة والأزر في وقت الضيق، نور دربهم، صوب خطاهم واشملهم بعطفك في هذا الزمن الخائن.

 

القيامة

 

منذ أسبوع ولجت شهرها. أصبحت السعادة قرينة الغد. تعجلتها. احتارت كيف تكون مشاعرها​​ يوم استقبال طفلها. واضطربت لما تسمعه من أحداث وحشية. هزها القتل المتعمد.

 

زوجها ألزمها البيت خوفا من حادث طارئ بعد انتظار مرير، حديث الجارات يثير الرعشة والحماس، هل كانت تزجر طفلها لو انضم مع أترابه في تحدي العساكر؟ تناقض صريح وهواجس محيرة. أمس انفجرت الأحداث قرب حارتهم، كانت تتعجل الأيام خوفا من مكروه يفقدها صبر عشرين سنة. هل تستطيع أن تواصل الحياة إذا حدث ما يفقدها كنزها؟

 

منذ أسبوعين زوجها لا يخرج للعمل، أحاديث كثيرة يتبادلها الرجال، الحركة حولها تتدفق والحرارة تتفجر، الحماس يتلاقى مع الانفعال وهي كالمحتفى بهم، مكرمة مدللة مستريحة. أحيانا يراودها تمرد لما يطولها من دلال ومن راحة، لكنها تخاف حقا على حملها الثمين. الأحاديث المنقولة تؤججها حماسة. ترى متى تحل اللحظة؟ متى يزغرد قلبها فرحا؟ تتحرك أشجانها مع ورود أسماء الشهداء. لو رزقت من وقته بطفل لكان من نفس​​ عمر الشهداء. يغمرها حس عارم أنهم أبناؤها. تفيض برغبة في المساهمة بالأحداث، الحركة تنبئ بقرب اللحظة. زوجها بات يدور في فلك البيت، ممغنط في انتظار اللحظة، تتسرب منه إيمآءات وإشارات واستفسارات صامتة، تطمئنه بنظرة رقيقة دالة، لا يهدأ باله، كيف يهدأ بال من خاض​​ اللجة على جبهتين؟ الزوجة والاحتلال؟ الاحتلال سيصير زمنا مندثرا، الأطفال جعلوه سخرية القدر. هل سيرزق ذكراً، وهل سيمتد الوقت مع الزمن السيء بحيث يكبر طفله والدنيا على ما هي عليه؟

 

تخيلت طفلها يقذف حجرا. فأطربتها الفكرة. فولجت فيها حتى نهايتها. رأت نفسها تجمع​​ الحجارة لأطفال الحارة، تواجه البطش، تتحدى الرصاص، تتلقى ضربات العصي، تتكسر العصي ولا تركع وحركة الجنين تنقلها للعالم الملموس. شيء يكاد يمزق أحشاءها ... فتصرخ مرعوبة من الأمل.

 

يا ملطف

 

كانت زوجة وهيب حديث الحارة والجارات كالعادة يتناقلن آخر الأخبار مع رشفات قهوة الصباح، لكن أخبار هذا الصباح خلت من حكايات الانتفاضة، أو ربما هي انتفاضة من نوع جديد، أو الوجه الآخر.

رب تمم ولادتها بخير.

جاءها المخاض في عز منع التجول فهربوها من الحقول.

رب لا تضع رجاء سنين.

يقولون إن العساكر انتبهوا؟

رب لا تضع رجاء ولا تخب أملا.

ولكنهم نجحوا بالتسلل.

هاجم الشباب الدورية بالحجارة.. فألهوها.

رب تمم بخير.

لا تحرمها من فلذة كبدها بعد صبر عشرين عاما.

ستلد ابنا ذكرا إن شاء الله.

سأوزع الحلوى إذا رزقت بابن.

سأوزعها حتى لو رزقت ببنت.

بعد عشين سنة تلد بنتا؟

همرت بها الجارات فنكست عينيها غير متنازلة عن رأيها، إنما لحظة حتى تعبر همرة الاحتجاج.

المهم أن تلد.

أن ينتهي العقر.

لطفك يا ملطف.

لولادتها سيكون وقع خاص.

ولادتها خير لنا جميعا.

خير لنا وعلينا.

رب تمم بخير.

رب لا تضع تعب أحد.

 

تجلي العصر

 

تهيب وهيب من طول الانتظار واكتأب، غلفته أفكاره بشباكها حتى لم يعد يشعر بمن حوله، ضغطته موجة من التخيلات، أصابه شطط وتاه وراء المبتدأ وافتقد الخبر. غاص في دوامة الاكتئاب.

 

الضجيج شديد في الرواق الممتد، عشرات السائلين الباحثين عن مصائر أبنائهم. أيكون قد تبلد؟ أيكون قد فقد حسه الإنساني؟ اعتراه رفض... وانتفض واقفا مزيحا عنه همومه. تأمل اكتظاظ الرواق بالناس والحركة. خطا خطوات مترددة ذهابا وإيابا، تأمل الباب المقفل واعترته طمأنينة.​​ 

 

دفق من التفاؤل ملأ صدره، انتشر الفرح في كيانه وطرب لهذه الولادة المتجلية في هذا​​ الزمن المتفجر. هل كان يتمنى لزوجته ولادة في زمن آخر؟ كيف لا تتوغل السعادة في كيانه والخصب يجيء مع الانفجار؟ مدد مبارك، ثمر بعد انقطاع أمل، خير بعد جدب، ثورة بعد صبر. يتذكر ما مر عليه بمجمله وليس بتفاصيله، يبني لنفسه عالمه بأفقه الواسع الممتد وليس بحدوده، بمعناه وليس بنصه. توسم الخير في هذا الضجيج، رأى تجلي العصر، رأى كينونته وطرب لشارات النصر يرفعها النازفون دما والمتلون الما، اهتز كيانه من الأعماق وأصابه الارتعاش.​​ 

 

مدد من الحماس سرى في دمه. نظر نحو الباب منتظراً من جهينة الخبر. سمع صراخها يعلو، أتكون الولادة بلا ألم؟ أتكون السعادة بلا ثمن؟ دفق من الدفء أحاطه وهو يرنو لأهل الحارة القادمين رجالا ونساء، أفواجاً أفواجا ... من آخر الرواق. أراد أن يبتسم، حبس دموع الفرح، شدت سمعه بضع صرخات أخرى تعلو من خلف الباب المغلق وأهل الحارة يقتربون بضجيج، معهم عشرات الجرحى​​ ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم. مدد من الراحة، مدد من السعادة، تغرقه أجمل الأحاسيس، تتفجر من عينيه دموع الفرح، يقف أمام الجمع المتدفق يبكي دون أن يشعر بالحياء، يتمنى لو يحمل عن الجرحى بعض آلآمهم، أن ينزف دمه بدل دمهم، أن تكسر عظامه بدل عظامهم، ينظر نحو الباب مستعجلا السعادة، لكن جهينة لا تبان، ينظر نحو العصر المتجلي بناسه وأحداثه، بدأت الصرخات تخفت، يحيط به جمع غفير، تحيط به أجمل المشاعر، يعانقونه بيقين العارفين وعينيه تتنقلان بينهم، تبتسمان لهم ثم تتعلقان بالباب، حيث الخبر والامل.

 

 

 

للمشاركة

nabilawdeh

Read Previous

رسالة تنتظر الجواب

Read Next

في مهب الريح

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *