في مهب الريح
إبراهيم يوسف – لبنان
تعقيبا على "لبنان الكرامة
والشعب العنيد"
عبد الجليل لعميري - المغرب
"لكن الاغتيالات أجهزت على كثير من الأصوات الشريفة المدركة، التي عرّت بشاعة الطائفية، وزحفت رياح صحراء البدو، وغبار الإمامة على لبنان فتمزق، وانهار اقتصاده واحتلته أكوام القُمامة وانقطاعات الماء والكهرباء، وحرائق الطائفية التي لا تنتهي، وجاع الشعب والجيش حين سرقت أركان الطوائف خبزه وعرقه ودمه. وعصفت به مختلف الأزمات ليترنح ويهوي".
ربما كان سقوطنا عصيّا على النهوض يا صديقي؟ أقلّه في الوقت الحاضر، لأن إرادتنا حبيسة متاهة أقمناها لأنفسنا وتهنا في العثور على المخرج؛ وسأستعين على الشرح بما تسعفني به ذاكرتي المنهكة، بفعل الزمن وما واجهنا في أعمارنا من الويلات، وحروب داخلية تدهمنا كلما "دقّ الكوز بالجرة"، لتتوالى علينا مختلف المحن. ولو كان يساعدني حجم النص؟ لعدت إلى كثير مما كتبته بهذا المعنى، فأستعير بعض المقتطفات القديمة ولا أعتقد أنها ستفي بالغرض.
لكن دعني في البداية أقارب الطائفية من زاوية الأمير الصغير؟ بنفس أدبي أتحفنا به كاتب الرواية دو سانت أكزوبري، ولا يكفي وصفه بالمبدع أو العبقري فحسب. هذا الكاتب غرق بطائرته في البحر واختفى أثره، وقد أحرز الأمير الصغير نجاحا مدويا، كواحد من أفضل كتب القرن العشرين.
هكذا يندفع الأمير الصغير بحشرية المكتشفين، ويروح يستطلع أحوال الناس على الكوكب الجديد، حينما تعطلت طائرته وهبط بها اضطرارا على الأرض؛ قادما من كوكب بعيد يكاد لا يتسع لزهرة.
قادته قدماه وهو يتجول إلى رجل سكير، فشعر بعدوى التعاسة تجتاحه وتنال من روحه. ولما كان قد اتخذ قرارا بمغادرة الكوكب؟ فقد آثر قبل رحيله أن يتحدث إلى الرجل الصامت السكير، وهو يرى فيضا من القناني الفارغة تنتشر حوله. دنا منه الأمير وسأله: ما عساك تفعل ها هنا؟
قال الرجل بصوت ملؤه الأسى: كما تراني فأنا أسكر. قال له الأمير: لكن علام تسكر.!؟ ورد عليه السكير يقول: لأنسى. لكن الأميرالصغير لا تقنعه الإجابات القصيرة، وقد أشفق عليه وأخذته الرأفة بالرجل فسأله من جديد: وما عساك تنسى؟ قال له: أنسى عاري. أحس الأمير برغبة شديدة في إسعافه ومساعدته وسأله: وما هو عارك؟ قال له: عاري إنني أسكر، قالها ولزم الصمت.
وداوني بالتي كانت هي الداء في قول الحسن بن هانىء، أيضا رجل نادر في التاريخ أحسن إليه وأكرمه ربه. اكتشف فينا العلة والعلاج في مرض الطائفية القتال، منذ بدايات مغرقة في التاريخ.
توقفت الحرب لكنها سلطة المال، والمكاسب والمصالح والامتيازات التي استبدت "بأركان" السلطة في الوطن الذبيح، فلم يحاول ساسة لبنان وحكمامه ولم يتعظوا بعد "التعافي" من لملمة البلاد وقيادتها إلى بر الأمان. كما فعلت أوروبا عشية انتهاء الحرب بوقت قياسي قصير. لأن ملوك الطوائف إياهم عندنا، ممن سعَّروا الحرب الأهلية والطائفية؟ عادوا إلى حكمنا من جديد!!
الأوطان المتماسكة المنيعة؟ لا يجرؤ الخارج أن يزعزع أمنها وينال من قيمة اقتصادها؛ فلا يدنو منها إلا حينما تتبهدل وتنكشف عورتها للجميع. سويسرا على الحياد لأنها قوية ذات سيادة ونفوذ في العالم، لذلك يمكنها أن تقف موقف الحياد. لكن طبيعة القاصر أن لا يكون حياديا على الإطلاق.
تصوّر ماذا كان ليحدث، لو ان المملكة المتحدة دولة عربية، انشقت عن الاتحاد "الأوروپي"!؟
وحينما وضعت الحرب أوزارها في الطائف؟ أوهمونا أنهم تحولوا إلى أولياء وقديسين وأنهم تركوا بنادقهم وغادروا المتاريس، لحمل المشاعل وقيادتنا نحو الحق والعدل وحدائق النور.
وليد جنبلاط مثلا؟ الوريث الشرعي لكمال جنبلاط رائد الحركة الوطنية. لبس عباءة أبيه وتولى قيادة الدروز من خلال الحزب "التقدمي" الاشتراكي. ورفع لواء حرب الجبل التي أوقعت ما لا يحصى من القتلى "الضحايا" من النصارى والدروز من الجانبين. قيل عنه يومئذ كلاما صادما بلسان الثوريين، ممن تباهوا به بأنه غير والده صاحب المبادىء والأيدي البيضاء، فالأب كان قريبا من الطبيعة والنبات والفلسفة واللاهوت والهند، يقتات بما يكاد لا يكفي أوده وحاجة جسده.
لكن الإبن ما شاء الله عليه؟ تباركت حركات أصابعه تعبث بشعره يحكه بلا أسباب، يختلف جذريا عن الأب في الظاهر والباطن، ويروقه أن يتناول قصبة سوداء وكاس عرق بلدي بشهوة القَرِم على مائدة الإفطار. ثم انتهت الحرب في الطائف بالمصالحة على مبدأ لا غالب ولا مغلوب. والمصالحة التي تمت من الصعوبة الخوض في تفاصيلها، وكيف حلّ الرحمن علينا برمشة عين.
ثم سمير جعجع وريث القوات، وتعود في أصلها إلى حزب الكتائب اللبنانية، ومؤسسها بيار الجميِّل الجد. ومن "حسنات" الوريث أنه لم يدخل الوزارة، التي كانت جاهزة لحسابه. بل آثر الدخول إلى السجن مكابرة ليس أكثر، بعدما تورط وأدانته المحكمة بتدبير اغتيال رئيس الوزراء رشيد كرامة، واغتيال داني شمعون نجل الرئيس كميل شمعون، مؤسس حزب الوطنيين الأحرار.
كلنا في خدمة هذا الوطن التعيس. أما طوني فرنجية إبن الرئيس سليمان فرنجية الجد؟ فقد تم اغتياله وهو والد سليمان الحفيد. وهكذا كل الأحفاد يحملون أسماء أجدادهم ومآثرهم، ما شاء الله عليهم جميعا. وقد قاد الدكتور سمير جعجع بنفسه الحملة العسكرية، التي اغتالت فرنجية في عقر داره ودياره. تم اغتيال طوني فرنجية مع زوجته وطفليه، ولم يرحموا كلبا كان خامسمهم.
لكنني أشهد بالحق أن القوات اللبنانية أقل "الفاسدين"، ممن نهبوا أموال الناس والمؤسسات.
والقوات اللبنانية التي انشقت على نفسها ومن قبلها عن الكتائب، التي أوغلت في الدم اللبناني والفلسطيني إلى جانب الإسرائليين في مجزرة صبرا وشاتيلا، وقبلها في سقوط تل الزعتر، والحواجز الطيارة كالسبت الأسود. وإيلي حبيقة بو علي المتهم بالمشاركة في المجزرة المروعة.
رئيس مجلس النواب نبيه بري، وريث الإمام المغيّب السيد موسى الصدر، مع رفيقيه الشيخ محمد يعقوب، والصحافي عباس بدر الدين "في ليبيا حتى اليوم". والرئيس بري معجب بأدهم خنجر، ممن حاولوا يوما اغتيال المندوب الفرنسي التعيس الذكر غورو. والحزب "الطليعي" حليف الحركة فوق الشبهات الساكت عن الارتكابات، والمعارك الطاحنة التي جرت بين الطرفين إبان الحرب الأهلية من أبناء الطائفة والمذهب الواحد. وأنا شاهد على معظم ما حصل، وكيف كانوا ينددون بخصومهم، ويشهرون بقتلاهم في الشوارع، عراة الأجساد تحت عيون الأطفال.
فلنأت إلى ذكر آل حريري المنقذين، ممن تلقفوا "كرة النار" بأيديهم بعد الحرب، لخلاص البلاد والعباد، فأنشأوا سوليدير وصادروا بالنفوذ أو الحيلة وتراب المال حقوق الناس، فاستولوا على الوسط التجاري في المدينة وضاعفوا ثرواتهم بعد الحرب عشرات المرات خلال وقت قصير. وأقاموا في وسط المدينة وعلى أرض سوليدير مسجد محمد الأمين، تكاد قبته تبلغ عنان السماء.
وأما ما كان مُعَوّلا عليه في الإصلاح والتغيير والإبراء المستحيل؟ فقد سقطت نهائيا ورقة التين، وانكشفت عورة العهد والمحيطين، في المفاوضات البحرية الجارية، والتفريط في ترسيم الحدود.
ومن أوغاد السلطة، والمصارف والبنك المركزي، ممن يستطيعون خنق الأصوات وكم الأفواه إلى الأبد، استولوا على وديعتي مما بقي لي من ثمن عقار، بعته ليكمل ابني سنته الأخيرة في الجامعة. شهرت بهم وشتمتهم في العلن، وأشرت إليهم بوسطى أباخسي ولم أحصل على شيء.
ويبقى محازبو حفيد معروف سعد؟ اغتالوا جده حينما انتصر للفقراء. وآل فرنجية من المردة في "الجانب الوطني". وعبد الحميد أول آل كرامي.. ثم رشيد من رجالات الدولة وضحايا القوات.
وتقتضي الإشارة للحق والإنصاف إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ومؤسسه أنطون سعادة ممن تمت محاكمته في ليل بهيم، فحكموا عليه بالإعدام ونفذوا فيه الحكم عند طلوع الفجر.
ومن أعضاء هذا الحزب من يقول أتينا نحزّب العشائر..؟ في منطقة بعلبك الهرمل "فعشرونا" أي حولونا إلى عشائر. وأما الحزب الشيوعي؟ فبات بحاجة إلى دعم أميركي يدافع عن مبادئه وقضاياه. هذه عينة بسيطة ومختصرة فحسب عن التمادي بسوء أحوالنا ما كنا فيه وصرنا إليه.
هل تُصَحَّحُ بعض عللنا بالإنتخابات النيابية المبكرة؟ التي طوشونا بها ووفق أي قانون ستجري!؟ لو تفاءلنا خيرا فهل فعلا سيتفقون في مدى سنوات على نظام انتخابي (عادل)، لا يخدم فسادهم؟
فالأنظمة الانتخابية المعمول بها منذ بداية الاستقلال، فُصِّلت على مقاسات طوائفهم ومصالحهم.
لعلي لو أسعفتني ظروفي أنشر تباعا في الروافد، ما لم أنشره من المقالات، التي ابتدأت كتابتها بهذا المعنى منذ سنوات طويلة.. ومن أولاها "خربشة على الخريطة" في عود الند منذ سبعة أعوام.. وأخرها ربما تغريدة على هوا الشاشات، وقد نشرتها في موقع السنابل منذ بعض الوقت.
هذه عينة عشوائية عن حالنا، وما خطر لي في البال. أحبطتْ خليل الكافر وناءَ بها نبيُّ جبران.
"ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين، ويل لأمة تلبس مما لاتنسج، وتأكل مما لاتزرع، وتشرب مما لا تعصر، ويل لأمة تحسب المستبد بطلا، وترى الفاتح المذل رحيما!".
3 Comments
قسوة اللغة من قسوة الواقع ….تحليل جرئ حفظك الله . تاريخ من الخذلان والانهيار لا يستطيع قراءته وفك الغازه سوى خبير مثلك استاذي
الأخ الصديق الأستاذ عبد الجليل
“لقد صامَ هنديٌ فَرَوَّعَ دولةً
فهل ضارَ عِلْجاً صومُ مليونَ مُسْلِمِ”؟
إنه يوم العيد وأنا سعيد حقا بإطلالتك هذا الصباح. من عاشوا أو واكبوا أحداثنا في الداخل والخارج يدركون تماما معنى هذه التفاصيل، ومنهم ربما من يعنيه الوقوف عليها؟ على أن حيزاً ملحوظا في النص بعيداً من الخصوصية المحليِّة، ولا يرتبط من بعيد أو قريب بتفاصيل متاعبنا وأحوالنا التعيسة؛ وهو متاح للجميع.
أما (الجرأة) يا صاحبي فلأنني لم (أُقَصِّرْ) بوطنيتي في شيء. (القيِّمون) على أحوالنا وأموالنا ومستقبل أجيالنا هم المقصرون المرتكبون. وأخيرا ليس من العدل أن يبقى الفلسطينيون بمفردهم أمام فوهة المدفع. (لكن) كل له (مبرراته) واعتباراته. شكرا جزيلا لك. خالص محبتي وأحلى أمنياتي لكم جميعا. وكل عام وأنتم بخير.
الأستاذ العزيز إبراهيم يوسف
أهل مكة أدرى دائما بشعابها وأين ستؤدي في النهاية؟
لكن نهوض الأوطان إن لم تكن سهلة؟
فليست مستحيلة، للعبور بالبلاد إلى الخلاص وبر الأمان
أما مقاربة الطائفية من خلال الأمير الصغير
ومقولة أبي نواس: وداوني بالتي كانت هي الداء
فقد استوقفتني وتمنيت للأمير حيزا من الموضوع أطول
لكن باقي التفاصيل تعني أول ما تعني أصحاب الشأن
ممن واكبوا ما جرى في السياسة والاقتصاد وسوى ذلك
وأما النكبات التي تتعرض لها البلدان؟
فمن شأن هذه البلدان وحدها أن ترفعها عن نفسها
أما وقد اختار الأستاذ عبد الجليل لنصه صورة السيدة فيروز
ولما كانت فيروز القاسم المشترك بين أبناء الوطن الواحد
فلم لا تنطلقون إلى الإصلاح وترميم ما تهدم بوحي من محبة فيرو ز
هذه الثروة ورأس المال يشكل لكم جزءا من الرافعة القدوة
صوت رخيم نادر… وبلبل لا ينتمي لغير الإنسان
غرّد في فضاءآت الدنيا وسائر أوطان العرب
وربما لأجيال طويلة قادمة لن يسعفنا بمثله القدر