سمعةٌ مُستباحة

​​ 

سمعةٌ​​ مُستباحة

إبراهيم يوسف​​ ​​ لبنان

 

© La Cigale

 

 

"بُنْدَيْرَة"​​ وحِداءٌ​​ متواصل

​​ وجمهرةٌ​​ من المُريدين

انطلقوا​​ من راس البياضة

​​ باتجاه​​ بيت​​ 

أحمد شبيب​​ الحاج​​ دياب

بجوار​​ صنين​​ وحفظ​​ النبي ساما

عليه السلام

تتردد معهم​​ أصداء شمس الجبل

 

تهتف مرددة بحماس

يا بو الميج ويا بو الميجانا​​ 

ديغول خبِّر دولتك

​​ باريز​​ مربط خيلنا

 

فلم يجدوه...​​ لكنهم وجدوا

الدكتور علي​​ شحيتلي

​​ يخلع​​ باب​​ الدار​​ ليستولي​​ 

على ما في سيارته​​ من البنزين

 

مع خالص محبتي وتحياتي

للدكتور​​ علي والدكتور​​ أحمد​​ 

الذي​​ ​​ آثر​​ الإقامة​​ 

​​ مع​​ أسرته في باريس

حتى أواخر الصيف المقبل

 

​​ متخلفا عن​​ واجب النضال

​​ الوطني​​ والبقاء

في​​ مواجهة ما يحدث عندنا​​ 

من تداعيات​​ خطيرة​​ 

وكوارث على كل الجبهات

 

**************

 

رَكَنَ الحكايةَ​​ في زاويةٍ

​​ من زوايا ذاكرتِه​​ المُتعَبَةِ​​ العجوز

​​ لكنّها أبتْ​​ إلاّ أن​​ تنشط

​​ وتستفيقَ

​​ في نفسِ​​ الموعدِ​​ من كلِّ​​ عام

​​ لتتمرَّدَ عليه

​​ وتنغِّصَ​​ عليه هناءَةَ​​ عيشِه

​​ كلما حلَّ الشتاءُ​​ ببردِه

​​ وثلجِه​​ وزمهريرِه​​ وعواصف

​​ تنوَّعت تسمياتُها

​​ من​​ زينة وهدى​​ إلى​​ وندي

​​ وجنى ويوهان

​​ والحبلُ​​ على الجرّار​​ فتعود​​ 

ذكرياتُه​​ وتجلدُه من جديد

 

كانَ​​ على صديقها​​ أن يسافرَ​​ على​​ جناح​​ السُّرعةِ،​​ في مناخٍ​​ انخفضتْ​​ درجة​​ حرارته​​ كثيراً،​​ وبلغت​​ عشر درجات مئويّة​​ تحت الصفر؛​​ فالصقيع يخترق​​ الطواقي​​ والشّعر​​ إلى​​ الرؤوس،​​ والجوارب إلى الأقدام،​​ ويتجاوز​​ الثياب​​ السميكة​​ ومعاطفَ الصُّوف​​ واللحمَ​​ حتى​​ يصلَ​​ إلى​​ العظام. ينالُ​​ من​​ الأنف​​ والأذنين​​ ويكادُ​​ لشدَّته​​ يشلُّ​​ حركة الأطراف​​ ويعرقل​​ نَبضَ القلب.​​ في هذا​​ المناخ​​ القارس​​ الرديء؛​​ تولّتْ​​ صديقتُه إيصالَه​​ إلى المطار​​ بسيارتِها​​ النشيطة،​​ ذات​​ الدَّفع الرباعيّ​​ والكفاءة العالية​​ على المنحدرات​​ وفي الجبال،​​ المجهَّزة عجلاتُها​​ ب​​ (ABS)​​ وسلاسل معدنيَّة​​ للجليد،​​ واقية​​ من الانزلاق.​​ 

تضمَّخت​​ "بشانيل"​​ أغلى​​ وأزكى​​ أنواع العطور. قارورة مميزة الشكل والمحتوى،​​ تلقتها​​ هدية​​ من صديقها في آخر رحلة له إلى​​ باريس. كانت​​ تجلس​​ وراء المقود​​ بأبهة​​ الواثقين​​ من​​ أنفسهم.​​ تلقي​​ شالاً صوفياً على منكبيها​​ القائمين​​ بتمرُّدِ​​ في طبعها بلغ​​ حد​​ التعالي​​ والغرور.​​ تنتعلُ حذاءً​​ جلديا طويل الساق،​​ وترتدي​​ فستاناً​​ خمريأ قصيراً يكشف حيزاً ملحوظاً من ساقيها الناعمتين​​ الدَّافئتين.​​ 

ساقان​​ كَوَّنتْ​​ ذرّاتهما قدرةٌ​​ عظيمة،​​ تستوجب​​ غضَّ​​ البصر​​ ولا حولَ ولا..​​ لمن آمن​​ بالله واليوم​​ العظيم.​​ ربِّنا: لا​​ تؤاخذها ولا​​ تؤاخذنا؛​​ ولا تفضح ما اطّلعتَ​​ عليه من خَفِيِّ أمورنا،​​ فإنَّ​​ في هذا لسلطانٌ​​ علينا​​ شديد؛​​ فأنت​​ الكريم​​ الرؤوف​​ الوليُّ​​ الهادي الرشيد​​ الرحيم،​​ بعبادكَ​​ الخاطئين التائبين.​​ 

هكذا​​ أوصلتْه​​ صديقتُه​​ المُزبطِرَّة​​ إبَّانَ​​ يوهان،​​ عاصفة​​ عاتية​​ هوجاء ضربتْ​​ أرجاءَ​​ البلاد، فتحوَّلتِ​​ الرؤية​​ إلى​​ سيئة من شمال لبنان إلى جنوبه، ومن بحمدون حتى الهرمل في أقاصي​​ البقاع.​​ دونَ​​ أن يسبِّبَ​​ لها​​ الجليد​​ على الطريق​​ الجبلية،​​ وضيقُ الوقتِ​​ وسوءُ الأحوال الجويَّة​​ التَّوَتُّرَ​​ والتّعصيب.

بل كانتْ​​ صاحية تماماً​​ وفي​​ غاية​​ السعادةِ​​ والشجاعةِ​​ والهدوء،​​ فصديقُها مسافرٌ​​ اليومَ​​ إلى باريس،​​ قبلةَ​​ أنظارِ​​ المثقّفين والأدباء من كتّابٍ​​ وشعراء وفنّانين، لكي​​ يقضي في​​ ربوعها أسبوعاً كاملاً،​​ ويشاركَ​​ في برنامجٍ​​ للهواةِ​​ ويقدِّمَ​​ على مسرحِ​​ الأولمبيا،​​ وَصْلةً​​ من​​ الموشحات​​ والطّربِ​​ الأصيل.

انحدرت​​ باكراً؛​​ في الطريق​​ من​​ المنزل​​ في​​ أعالي​​ جبل​​ الباروك؛​​ وشغَّلتِ​​ التدفئة المركزيّة​​ لصديقها​​ الفنان​​ الموهوب،​​ صاحب​​ الحاشية الرقيقة​​ والشعر​​ المهمل المنفوش،​​ واشترتْ​​ له باقةَ​​ وردٍ​​ جميلة،​​ والمذياعُ​​ ينقلُ إليهِما​​ من إذاعة صوت المحبة​​ في بيروت: "يمَّا القمر عالباب؛ ما عدش فيها كسوف! قومي افتحيلو الباب". تستفز الحواس​​ وتحرِّكُ​​ الدورة الدموية​​ ورغبات​​ الطبيعة البشرية.

بلغتِ المطارَ​​ بسرعةٍ​​ قياسية، ومهارة​​ عالية​​ في​​ قيادة​​ السيارت،​​ دونَ​​ أن تتخطّى​​ لحظةً​​ واحدة​​ السرعةَ​​ المَرْقومَة​​ على أوِّلِ​​ لوحةٍ​​ في الطريق​​ إلى المطار. ركنتِ​​ السيارةَ على عجل​​ في​​ موقفِ​​ مخصَّصِ للمسافرينَ على متنِ طائراتِ​​ "الميدل إيست"،​​ الشركة الوطنيّة​​ العريقة​​ ذات​​ الضمانة​​ العالية​​ والخبرة الطويلة. ثم أحضرت عربة​​ وساعدتْه في نقل​​ الحقائبِ​​ حتى​​ أول​​ مدخلِ​​ الأمنِ​​ العام.

تَمَنّتْ له رحلةً​​ موفقة​​ آمنة​​ وهي تودعه​​ وتوصيه أن يعتني بصحَّتِه،​​ فيأكل جيداً ويرحم نفسه فلا يرهقها​​ في​​ عاصمةٍ​​ تغري بالسهرِ​​ في​​ مرابعِ​​ "المولان روج​​ والپيڠال"،​​ وتضجُّ بشتّى وسائلِ​​ ​​ الترفيه والإقبال على​​ مختلف المسرات.​​ دونَ أن تُبدي له ما يعتملُ في صدرِها من​​ القلق​​ والضيق.​​ 

حينما تأهبتْ​​ "أمُّ​​ الخير"​​ للعودة​​ إلى منزلها​​ في الباروك؟​​ عانقتِ​​ "أبو النور"​​ صديقها​​ وجارها​​ زيز الحصيد.​​ دمعت عيناها وهي تعانقه​​ قبل الرحيل،​​ وهو​​ يجفف دموعها بمنديله​​ المطرّز الجميل،​​ ويَحضُنها​​ إلى صدره​​ بحرارةِ​​ العشاق​​ المُدْنفين،​​ ويسألُها عن حاجتِها​​ وما تتمناه​​ من باريس..؟

قالتْ​​ له:​​ يكفيني​​ أن تسافرَ​​ ثم تعود إلينا​​ بالسّلامةِ والتوفيق، وعلى صدرِك تتوهَّجُ​​ المداليةَ​​ الذّهبيَّة. أنا واثقةٌ​​ تماماً من​​ فوزك​​ وقدرتِك على العزفِ،​​ وموهبتَك في الغناءِ​​ بشتّى لغاتِ​​ أهل​​ الأرض.

من يدري يا صديقي؟​​ فربما خصَّصوا لكَ​​ مقعداً،​​ لتجلس​​ وتشارك​​ في إبداء​​ رأيك​​ إلى جانب لجنةِ​​ التحكيم!؟​​ لكنّ​​ أبا الخير​​ زيز الحصيد​​ أصرَّ علىَ​​ "نمُّولتِه"​​ بتأثير من​​ ضعفه أمام​​ أنوثتها،​​ وسلطانها وكلامها​​ العذب​​ الرقيق؟​​ أن تطلبَ​​ لنفسِها​​ حاجةً​​ من باريس؟؟​​ قالتْ​​ له:​​ حسناً يا صديقي؟

عندما تنتهي من المشاركة في المسابقة،​​ وتؤدِّي وصلتَك في الغناء، وتنال نصيبك من​​ تحيَّةِ​​ الجمهور​​ والتصفيق الطويل..؟ أتمنّى​​ من بابِ​​ الأمانة​​ والوفاء​​ قبلَ زيارةِ​​ "اللوڤر والتويلري​​ وقوس النصر،​​ وإيڤل​​ البرج الشهير"،​​ وحتى​​ قبلَ​​ زيارة​​ "ڨرساي"​​ "ونوتر دام دي باري"..؟​​ 

أرجو​​ أن تقومَ​​ بواجبِ​​ الزيارة إلى مقبرةِ​​ العظماءِ​​ في "الپانثيون"،​​ قريبا​​ جداً​​ من حديقة​​ اللوكسنبورغ،​​ مسرح​​ البؤساء​​ وجان فالجان..​​ الشمعة​​ التي أضاءت​​ العتمة على​​ دروب الكثيرين.

ثم​​ تضع باقاتٍ​​ من الوردِ​​ الأحمر​​ على أضرحةِ​​ "روسو" "وهوغو" "وزولا"، ولا تنسَ قيثارتَك وتستأذنَ​​ " موزارت"​​ لتعزفَ​​ لهؤلاءِ​​ الرجالِ​​ الخالدين لحنَاً جنائزياً​​ وترنيمةَ​​ الحبّ​​ والموتِ​​ الحزين.​​ 

انتبه جيداً لعزفِك​​ وغنائك​​ يا صديقي، فهؤلاء ممن يُرهفون السمعَ​​ كثيراً،​​ ولا يُطيقون نشازَ​​ الصوتِ​​ في​​ الأداء​​ والتلحين،​​ أو​​ انزلاق النغم​​ خارج سُلَّمِ​​ التأليف..​​ وإياكَ أن تقلِّدهم أو تدحرجَ​​ الرَّاءَ​​ على مسامعهم..!؟ هكذا​​ سيسخرون منك​​ ويهزأون​​ بعروبتك..​​ وتاريخك​​ القومي​​ المجيد.​​ 

أما​​ لافونتين​​ ياصديقي​​ العزيز؟​​ فلن تجدَ​​ له أثراً في مقبرةِ​​ العظماء!؟​​ لأن​​ مدافن العظماء​​ ليست مستودعاً​​ أخرس​​ لدفن الموتى​​ والجماجم​​ والعظام البشرِيَّة!​​ فلتفتشْ​​ في​​ ناحية أخرى​​ عن​​ مكانٍ​​ هذا​​ الباغي​​ الأثيم،​​ وحينما تجد قبرَ​​ هذا​​ الفَظّ​​ المقيت؟​​ فاثأرْ​​ لنَمُّولتِك؛​​ ولا​​ تُغَنِّ​​ أو​​ تعزفْ​​ لمن شهَّر​​ زوراً​​ بقسوةِ​​ طبعِها، واستغلَّ​​ كرَمَها​​ وسمعتَها الطّيِّبَة​​ في حكايات الخيال الشعبي؛​​ وكتبِ التاريخ​​ الطويل.

ولكي تثأرَ​​ لِنَمُّوْلَتِكَ​​ وتعبِّرَ​​ عن​​ سخطك​​ وغضبك..؟​​ فلتقلْ​​ له: ها نحن نلتقي من جديد!​​ كما قال​​ -غورو الحقير​​ لصلاح الدين​​ - ومن نكد الدنيا أن شارعا باسمه لم يمسحوه عن خريطة العاصمة بيروت - وبعد ذلك​​ فلتُحَطِّمْ​​ قيثارتَك على قبرِ​​ المتعنت،​​ الذي​​ شهّر بك​​ واستخّف بألحانِك،​​ ولتفضَحِ​​ خواطره​​ المهزوزة​​ أمام​​ شاشاتِ التلفزة​​ وعدسات​​ المصوِّرين.​​ وقلْ​​ له بلساني على مسامعِ الجميع:

​​ سُحقا​​ له من​​ شاعرٍ​​ مغفلٍ منكود!​​ ينفِّرُ"بِفَبْلاتِهِ" قلوب الأطفال​​ بصرامته وقسوته​​ وتعنته،​​ حينما​​ استباحَ سمعَتي ولوَّثَ​​ تاريخي​​ المجيد،​​ فحمّلني وحمَّلكَ​​ لزمن لن ينتهي​​ هذا الميراث​​ الظالم​​ الثقيل.​​ 

حواشي توضيح

(1)-​​ ABS​​ Anti- lock braking system

(2)-​​ "اللوڤر والتويلري": اللوڤر؛ متحف​​ على الضفة الشمالية لنهر السين في باريس،​​ (وفيه​​ كثير من الآثار المصرية المسروقة)، والتويلري؛​​ حديقة المتحف، وتشرف من بعيد على​​ جادة​​ "الشانزليزيه" وقوس النصر.

(3)- قوس النصر.. تحوَّل المكان​​ منذ سنوات طويلة​​ إلى ساحة شارل ديغول.

(4)-​​ ڤرساي: قصر تاريخي​​ في ضواحي باريس؛​​ من عهد لويس الرابع عشر.

(5)-​​ حديقة "اللوكسنبورغ":​​ حديقة​​ في الحي اللاتيني​​ حيث جرى تصوير معظم​​ مشاهد فيلم البؤساء-​​ رواية فيكتور هوغو.. إحدى أشهر روايات القرن التاسع عشروالقرن العشرين.

​​ (6)-​​ تدحرج الراء- عندما تتحول الراء إلى غين​​ بلهجة الباريسيين.

(7) - بفبلاته -les fables de La Fontaine​​ 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

جولة انطباعية في السينما

Read Next

مبروك.. لاعِـبُ الظّـلِّ

4 Comments

  • أستاذي وصديقي

    خالفت النملة عاشقة الطرب والغناء وصاحبة القلب المشفق الكبير، قانون “لافونتين” في العمل المتواصل والعزوف عن متع الحياة، وانضمت إلى صديقها في الاعتقاد أن معظم من كرسوا حياتهم للعمل “كنملة لافونتين” يعانون من الاضطهاد النفسي، إذ لم يحصلوا على مبتغاهم أو يحققوا من أمانيهم إلا ما يسد جوعهم، بينما يتمتع غيرهم بالسيطرة على الخيرات والفوائد بأقل جهد، فَلِمَ لا نتمتع مع النملة بالحياة، ونترك مساحة للفرح في الرقص والغناء؟

  • العزيزة إيناس ثابت

    “لا فونتين” كما أراه؟
    أصوليا مخيفا بجديته الصارمة

    استوقفني التعليق للعناية
    ببساطتة ووضوح تعبيره ولماحتك
    شكرا على الاهتمام.. مودتي

  • صديقي العزيز إبراهيم
    النملة والصرصور حكاية شهيرة حفظناها من أيام الطفولة
    تم تحريفها إلى عدة نهايات مختلفة:

    في النهاية الاولى تطرد النملة الصرصور وفي تصرفها قسوة وتلاشي التكاتف الاجتماعي

    وفي النهاية الثانية تنضم النملة مع الصرصور في الغناء ثم تقول لصاحبها إذا رأيت لافونتين قل له: خيبك الله
    وبهذا تحرضنا النملة وتدعونا إلى الكسل

    أما النهاية الثالثة وفيها أن النملة تعاطفت مع الصرصور فآوته وتقاسمت معه الطعام حتى حلول الصيف.

    فأي نهاية منها تفضل يا صديقي العزيز؟

  • أنا يا صديقتي مع المهزومين أينما كانوا، ومع التعاطف والتكاتف والمودة، وتقاسم اللقمة حتى يأتي “الصيف” بخيراته تدفق على الأمم المنكوبة، ويفرجها الله علينا وعلى سائر خلقه.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *