مملكتي الصّغيرة..!

مملكتي الصّغيرة..!

خاطرة ..

بقلم: شهربان معدّي

 

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\خاطرة.png

 

 

أحببته..! نعم أحببته كثيراً.. وما زلت أفتقده، وأقدس​​ ذكره، رغم مرور سنوات كثيرة على رحيله..

 

ليس لأنه حاول أن يعوضني عن حنان والدي الذي رحل فجأة قبل أن نودعه.. ولا..؟ لأنني أحمل اسم جدتي الغالية، التي ربّته هو ووالدي وباقي أعمامي "برموش عينيها"..

 

بل لأنه ثمة سرّ روحانيّ، شفيف.. تقاسمناه سوية..

 

سرٌّ سماويّ، زرع في أعماقي بذرة​​ المطالعة​​ والكتابة، ونمّى ثروتي اللغوية، ومنحني الأجندة والأدوات التي أعانتني على شق طريقي الشائك، في هذه الحياة القاسية، وعرّفني قيمة الوطن، والإنسان، والذات، وكل ما تحويه هذه الكرة الزرقاء.. من سحر وغموض..

 

هذا السرّ، لم يدرك كنّههُ أحدٌ.. سوى.. أنا..! وعمّي.. الراحل.. ومكتبته الأنيقة.. "مملكتي الصغيرة" التي كانت تتضوّع بشهد الحروف، ورحيق الأبجدية..

 

 وتعمر بالموسوعات والمُجلّدات النفيسة، والكتب القديمة، النادرة، التي كانت ترشح منها رائحة المطر الأول، وعبق الأجداد..

 

والتي دأبتُ​​ أن أزورها كلما هاج بي الحنين لقراءة كتاب.. نعم..! أنا هي.. تلك "النحلة الشّرهة".. التي كانت تحوم بين رفوفها المتواضعة، لترتشف رحيق الحكمة والمعرفة، من بساتينها الزّاهرة، وتتذوق رضاب الآداب العالمية، وروائع الشعر العربي، من خيرات بيادرها..

 

وبشهية لا تنضب؛ وهوس لا يشبع؟ كُنّتُ ألتهم الصفحات والمجلاّت القديمة،​​ التي كادت تتآكل​​ صفحاتها البالية​​ بين أناملي الصّغيرة، وما زالت رائحتها الغريبة تزكم أنفي حتى هذه اللحظات..

 

وتساءلت..!؟ ماذا لو أن عمي.. بُعِثَ مرة أخرى إلى هذه الحياة.. ليكتشف اختفاء​​ كثير من كتبه القيّمة، الزاخرة بالملاحم والقصص التاريخية، المُعتّقة برائحة الأجداد، وعطر الإنسانية، وأن صُحفه وجرائده الغالية، التي اجتهد في جمعها سنوات كثيرة، قد.. اختفت..

 

هل كان سيغفر ويصفح عمن بعثروا كنزه الغالي..

 

ودمّروا مملكتي الصغيرة..!؟

 

ولسوء حظّنا، "أنا..! وعمي.." أنني وصلت مُتأخرة.. عندما تفرّقت تلك الكتب النفيسة.. وبالكاد أنقذت عدة صحف بالية قديمة، لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، والتي كان عمرها عشرات السنين.. وثلاثة كتب تاريخية.. من مجموعة كبيرة، لست أدري من أصبح سيّدها..

 

وعدت إلى بيتي، حزينة النفس، مكلومة الفؤاد، ودلفت مباشرة إلى غُرفة​​ "الصالون"، حيث مكتبتي الغالية، والتي اجتهدت "أنا كذلك" في جمع كتبها، ومجلداتها، سنين طويلة..

 

مكتبتي القيّمة، التي تُرفرف فيها القصائد الوردية، وتتدفق منها ينابيع الخير والعطاء، وموارد الحكمة والمعرفة، ويُزغرد بين أفنانها، فرح العصافير، وأهازيج الأطفال..

 

مكتبتي.. العامرة بأروع الكتب والروايات العالميّة، والمحليّة، وكتب علم النفس، والميثولوجيا، والطبيعة والعلوم الإنسانية.. بالإضافة إلى الكتب الغالية على قلبي، التي أهداني إياها، أعزّ الأصدقاء..

 

وتساءلت.. ماذا سيكون مصير كُتُبي إذا ما رَحَلّتُ يوما ما عن هذه القوقعة الأرضية..! هل ستواجه المصير ذاته، الذي بعّثر مملكتي الصّغيرة، وفرّق شملها..

 

هل سيقرأها أحد أولادي، أو على الأقل يتصفّحها..!؟ لا.. وألف لا.. لا أظن ذلك..! بعد هذا الانفجار المعرفيّ الهائل، والثورة التكنولوجية الجديدة، التي حشرت كل علوم الدنيا، في جهاز لا يتجاوز كف اليد، من سيسأل عن هذه الكتب الورقية اليتيمة..!

 

أليس كلّ يومٍ يُدفن في المقابر الإلكترونية، مئات الكتب والروايات، دون حتّى أن يتصفحها أحدهم!؟

 

ومن سيدرك، أنني تنازلت عن أشياء كثيرة، من أجل اقتناء هذه الكتب.. وأنها.. "بالنسبة لي" أجمل من كل اللوحات النادرة، وأثمن من كل التحف الأثرية..

هل سيعلوها غبار الزمن..! وليس ثمة من ينفضه عنها، أو يقلّب صفحاتها المشّتاقة لأناملي..

 

وخيّل إليّ أن أطيافاً​​ كثيرة، تسللت من بين صفحات كتبي.. بعد أن شَعَرَتْ بدموعي العصيّة، وسمعت نجوايْ.. وطفقت تُصلي معي:

 

حنانيك يا رباه، أحفظ لي كتبي، التي ستكسو الفقير، وتُشبع اليتيم، وتعتق الأسير، وتحيي الفضائل الإنسانية.. إذا ما عرفت قيمة فحواها الأجيال القادمة، وكلّ عين وفكر يسبران.. أغوار معانيها..

 

أرجوك..! ارحم هؤلاء الأبطال، الذين خدشت الخيانة؛ وغدر الزّمان، وفاء حبهم.. وشوهت الحروب؛​​ إنسانيتهم.. وسلبتهم أمّنهم وأمانهم ومجدهم، وشتّتتْ شملهم..

 

 هؤلاء الذين ناموا في بواطن هذه الكتب، ودفنوا في مقابر التاريخ، وانّصهرت أمانيهم وأحلامهم، في تفاصيل الحياة اليومية.. أناس عاشوا في القصور المنيعة، والبيوت الوضيعة، ولم يُخلّد ذكراهم أحد، سوى هذه الكتب الخرقاء.

 

رباه.. بعد أن خسرت مملكتي الصّغيرة.. كلّ ما أتمناه..! أن لا أخسر مكتبتي الفيّحاء، وكُتبي الغالية التي أصبحت قطعة من روحي، وأنيسة وحدتي، وملاذي الوحيد، في عجقة هذه الحياة المعدنية..

 

 

 

للمشاركة

shahrbanmoadi

Read Previous

عن السخرية في عجيبة بيت أبي بشارة

Read Next

مناجاة الروح

6 Comments

  • الكتب يا صديقتي مملكة الكادحين الفقراء بحق والخبزُ الحافُ القفار. قلما ينتفع بها المترفون المشغولون عن همّ الكتب بجمع الثروات. طوبى لك من القلب هذا الوجدان المتدفق، والثروة التي لا تقدر بمال. تمكنت بدوري من الحصول على بعض الكتب النادرة، ويعود تاريخها للمطابع الأولى.

    لي حكايتان عن الكتب سأقدم إحداها لشهربان، وقد اخترت عنوانها منذ الآن: مطالعة بعيون مغمضة. أتمنى أن أقدم ما يليق بصديقة كشهربان، ومن يتابع الموقع من القراء الأعزاء.

  • الصديقة الغالية شهربان

    رائحة الأوراق مغرية وملامستها للأنامل تثير الحواس، ربما التمسك بالورق هو حنين للماضي، ولهفة لذكريات أكثر نقاء ودهشة. مع ذلك..لا يمكننا التنكر للمواقع الإلكترونية الزاخرة بالكتب، فقد أنقذت الكتب الإلكترونية أشجار الغابات وساهمت في الحفاظ على البيئة، ونحن مدينون لها بمد حق المعرفة للجميع، إذ لم تعد القراءة حكرا على أحد، ووفرت كتبا ليس من السهولة الوصول إليها في المكتبات.

    لا يهم كيف نقرأ ورقيا أم إلكترونيًا؟ مادام فحوى الكتاب طيرا مهاجرا يحط على ذهن القارئ ويعشش في الوجدان، وأن نقرأ كيفما اختلفت الوسيلة التي تعتمد على تفضيلات الشخص في الحياة خير من ألا نقرأ.

    شهربان..أنت أصيلة وجميلة الروح والمنظر..
    لك إكليل حب وياسمين.

  • “لا يهم كيف نقرأ ورقيا أم إلكترونيًا؟ مادامت فحوى الكتاب طيرا مهاجرا يحط على ذهن القارئ ويعشش في الوجدان، وأن نقرأ كيفما اختلفت الوسيلة التي تعتمد على تفضيلات الشخص في الحياة خير من ألا نقرأ”
    أجل عزيزتي ايناس الصّبية الرقيقة، والكاتبة المثقفة، القديرة..
    المهم أن نقرأ.. الكترونيًا كان أم ورقيًا..
    وننبش هذه الكنوز النفيسة؛ وننهل من طيبها، وعسل فكرها.. بدل خزنها، أو حفظها في المكتبات
    دون أن تلمسها يد..
    وكم من أشخاص يملكون مكتبات فخمة، غنية بالمُجلّدات والروايات والموسوعات.. ولكنهم لم يتصفحوا ولو كتابا واحدا..؟ بل عرضوا كتبهم للزينة على الملأ، كأي تُحفة، أو لوحة فنّية.. فقط من أجل الزهو والمُباهاة..
    وأنا شخصيًا استفدت كثيرا من المكتبة الإلكترونية بسبب عدم توفر كتب كثيرة
    في مكتباتنا..
    ولكن ثمة حنين لرائحة الكتب القديمة
    دائما يشدّني، ملمسها الناعم..
    وأوراقها الصفراء
    التي دفنت في القلب ألف غصّة
    وجبرت في النفس ألف كسرة
    وضمّدت جراحا كثيرة..
    هذه النوستالجيا؛ لا يعرف قيمتها؟
    سوى من عاش بين هذه الكتب..
    وحلّق كفراشة بين رفوف مملكتي الصغيرة.
    كم شرّفني تعقيبك الأثير صديقتي الغالية.

  • “الكتب يا صديقتي مملكة الكادحين الفقراء بحق؛ والخبزُ الحافُ القفار. قلما ينتفع بها المترفون المشغولون عن همّ الكتب بجمع الثروات.

    طوبى لك من القلب هذا الوجدان المتدفق، والثروة التي لا تقدر بمال. تمكنت بدوري من الحصول واقتناء بعض الكتب النادرة، ويعود تاريخها للمطابع الأولى”.

    طوبى لمن يكتبون بقامة الجبال.. وحكمة الشيوخ
    وعزيمة الشباب..
    الأدب مدوَّنة ومصفاة الشعوب..
    يوثق أحلامهم وطموحاتهم.. ويسجِّل كذلك صفعات التاريخ وخيباته.

    والكتب تعكس ملامح المجتمع في تطلعاته وهمومه؛ وفي مجده وعزِّه كما في هزائمه وانكساراته.

    وأفضل جائزة يتلقاها الكاتب، في اعتقادي؟ أن يكون مقروءًا وأن يؤثر في أمته بوصول رسالته إليها.. وهكذا يجب أن التعامل مع القارىء، وكأنه ضيف على مائدة إنتاج الكاتب.

    الحمد لله أننا مشغولون بجمع الكتب وقراءتها وسبر أغوارها
    والاستفادة منها ما وسعتنا قدرتنا وأوقاتنا..

    سيأتي يوم وتزول فيه الثروات أستاذي الراقي
    بينما لا تبقى إلاّ الأفكار العظيمة.

    دعني أنتهي بمقولة سيدنا أرسطو الحكيم
    ” بيت بلا مكتبة جسد من غير روح”

    دمت لنا أستاذي وصديقي ابراهيم يوسف
    منارة ومرشداً ومرجعاً وأديباً أريباً
    نقرأ له بشغف وقناعة وتقدير واحترام

    شهربان

  • “نعم..! أنا هي.. تلك “النحلة الشّرهة”.. التي كانت تحوم بين رفوفها المتواضعة، لترتشف رحيق الحكمة والمعرفة، من بساتينها الزّاهرة، وتتذوق رضاب الآداب العالمية، وروائع الشعر العربي، من خيرات بيادرها..”
    كم أطربتني هذه الكلمات
    وكم أثرّت بي هذه الخاطرة
    شكراً لك سيّدتي الأديبة شهربان معدّي

  • بل الشكر موصول لحضرتك
    أستاذي الأريب أحمد شبيب دياب

    كم شرّفني حضورك الأثير
    حينما منحني أجنحة
    وغرس في قلبي بذور الأمل
    بأن الدنيا لا زالت بألف خير
    ما دامت تستهوي نصوصنا المتواضعة
    هامات عالية كحضرتك
    وأشخاصا مثقفين يقدرون ما نكتب

    ملء حفنات من الزيتون الأخضر
    وزيت من ربوع الجليل
    مُعطّر بأنفاس الأصدقاء
    كرمى لحضوركم البهيّ الغالي

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *