كيف صار قبر دبور مقاما مقدسا؟

كيف صار قبر دبور

​​ مقاما مقدسا؟

من يوميات نصراوي

نبيل عودة

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\قبر وهمي مقدس.jpg

بعد​​ أن صار قبر​​ أبو خلو (أبو خليل) في بلدة كفر برعم المهجرة؛​​ مقاما مقدسا للرابي الصديق زولترا، كما كتبتُ​​ عن ذلك في حلقة سابقة من "يوميات نصراوي"، وصلتني حكايات عديدة من القراء، عن قبور ومقامات زُورت وسُرق تاريخها وصارت يهودية،​​ أسوة بالوطن الذي يُهَوَّد بأسماء مواقعه وجباله ووديانه وينابيعه،​​ ولكن لن ينجحوا بتغيير أسماء أهله ولغتهم وذاكرتهم التاريخية،​​ وارتباطهم بتراب وطنهم وقضايا شعبهم تحت الاحتلال​​ أو في مخيمات اللجوء!!

 

من تلك الحكايات؛​​ قصة تحويل قبر دبور الى مقام لرابي​​ سمي "الرابي دفور صاحب العجيبة".​​ طبعا لا أحد يعرف ما هي عجيبته، لكن المتدينين ذوي السوالف الطويلة يزورونه ويتمدّدون فوقه ويغسلونه بدموعهم... ولو عرفوا سر المدفون تحت التراب؟​​ لوفروا​​ دموعهم وابتهالاتهم على​​ أنفسهم...​​ وعناء وصولهم وتمدّدهم​​ ​​ فوق​​ قبر لا شيء يخصّهم فيه، بل لا شيء يخصّ البشر!

 

ما يعرف بقبر الشيخ دبور؟​​ يقع في قرية من قرى الضفة الغربية المنكوبة بفلتان سوائب المستوطنين، لن نكشف عن اسمها حتى لا تخرب الحكاية، ولن أكشف اسم الرابي الحقيقي ليبقى طرفة من طرف احتلال القبور وتهويدها، وليستمر طويلو السوالف بالبكاء فوق الضريح الموهوم،​​ لعلّ ذلك يخفّف شرهم ضدّ أصحاب الوطن.

 

كما تبين من روايات عديدة وصلتني؛​​ أن حكاية الشيخ دبور بدأت بمزحة،​​ حينما​​ جلس صديقان راعيان يتناولان ما يسكت جوعهما، والأبقار حولهما ترعى​​ من خير الأرض​​ ما طاب لها.​​ 

 

أنهيا وجبتيهما وقررا​​ أن يشعلا بعض الحطب؛​​ لغلي الماء وإعداد فنجاني​​ "شاي". جمع أحدهما بعض الأعشاب البرية،​​ التي تضفي​​ نكهة لذيذة مثل دقة العدس والشيبا ونبتة الليمون، وكان معهما بعض السكر لتحلية شاي الأعشاب.​​ وجلس الراعيان بشعور​​ ملوكي يحتسيان شايهما ويراقبان​​ أبقارهما،​​ وهي تجول بين النباتات والأعشاب تلتهم ما تشاء من خير الأرض.

 

ويبدو​​ أن الشاي المحلّى بالسكر،​​ أقحم عليهما في جلستهما الهادئة مجموعة دبابير،​​ جاءت تطالب بحصتها من الشاي المحلّى.

 

حاولا طردها​​ عبثا​​ بل قتلا بعضها، لكن الدبابير لم تفرّ وواصلت إصرارها على اقتحام خلوتهما وتذوّق شايهما المُحلّى...أحد الدبابير دخل الفنجان فسارع أحدهما الى إغلاق الفنجان بباطن​​ يده معلنا انه أسر أحد الغزاة... ولم يكمل جملته أذ شعر بلسعة حادة جعلته يقفز في الهواء،​​ صارخا وشادا​​ قبضته على مكان اللسعة​​ من الألم،​​ وعندما​​ شعر​​ أن أسيره لسعه، فتح كف​​ يده فوجد الأسير قد فارق الحياة ممعوسا داخل يده.

 

الراعي الثاني كاد يتمزق من قوة الضحك على زميله. بعد​​ أن هدأت المعركة بانسحاب الراعيان الى مكان آخر تاركان وراءهما بعض الشاي المحلّى للغزاة،​​ وهما بذلك يحافظان على​​ النهج العربي الأصيل،​​ بالانسحاب​​ أمام ضغط العدو كلما واجهوه بمعركة.

 

كان الدبّور الميت مسجىً​​ باحترام داخل كف​​ الراعي،​​ وتشاور الراعيان عن أفضل طريقة لدفن الأسير المعتدي.

-انظر ما أضخمه ابن العرص.

-يجب تكريمه ودفنه باحترام يليق بالمقاتلين.

-سأدوسه بقدمي وأسويه مع الأرض

-لا يا صديقي.. يجب تكريمه واحترامه، قاتل من أجل بعض السكر وحافظ على شرفه العسكري.

-انظر كيف تورّمت كف​​ يدي؟

-اشكر ربك​​ أنه لم يلسعك بوجهك.. لو فعل ذلك لصرت يا صديقي بوجهين.

-هل تسخر مني؟

-أستغفر الله.. وأحمده أيضا لأنه حماني من لسعته

-يدي تؤلمني.

-لا تقلق،​​ إذا دعاك الخالق ستكون شهيدا سقط في الجهاد ضد جيش من الدبابير الغزاة.

-لا تسخر مني.. وكفاك ضحكا.

-والله لا أسخر ولكنها حالة مضحكة... عندي اقتراح​​ أن ندفن الدبور بكل احترام ونقيم له قبرا وشاهدا ونسميه "الشيخ الصالح دبور".

-​​ الشيخ الطالح وليس الصالح.

-​​ الدبور لن يحتج.

 

ودفن​​ فعلا​​ الشيخ الصالح/ الطالح دبور باحترام يليق بالمقاتلين. بعد عدة​​ أيام​​ نُصِبَت قطعة خشب كتب عليها: "هنا يرقد المرحوم الشيخ الطالح دبور!"​​ 

 

ومضت الأيام، مئات مروا على القبر الصغير واللوحة التي ثبتت على القبر، لكن معظم الناس قالوا إن من كتب "الطالح" على لوحة الخشب غشيم بلغة العرب،​​ أو أخطأ بالإملاء لأن القصد "الصالح"، طبعا دون فهم حقيقة القبر​​ والمرحوم الذي مُدِّد تحت ترابه. كما يحدث عادة..؟​​ تناقل السكان القصة وغيروا وبدلوا في التفاصيل حتى ضاعت الحقيقة، وصار الدبور شيخا جليلا تؤلف حوله الحكايات.

 

بعد سنوات وحلول أجيال جديدة كانت تزداد الحكايات التي تروى عن قبر الشيخ دبور بالتحريف والاضافات، وقام أحد الغيورين على دينه ولغته بإصلاح الخلل اللغوي من "طالح" الى "صالح"!!

 

انتشرت حكايات كثيرة عن​​ الشيخ الصالح دبور، بعضها يقول​​ إنه كان من المجندين​​ في الجيش التركي وهرب من العسكر، وإن الجنود الأتراك حاصروه وقتلوه لأنه فراري،​​ بعد​​ أن قتل عشرة جنود أتراك على الأقل بمعركة غير متكافئة، وتكريما له من​​ أهل البلدة الذين يكرهون الأتراك،​​ لما​​ عانوه​​ من جوع بسبب نهبهم لمخزوناتهم من الطعام ولماشيتهم،​​ دفنت جثة الشيخ دبور في الحقل الذي شهد المعركة بينه وبين أعدائهم الأتراك.

 

البعض جعله شيخا وقورا وليس مجرد مقاتل يرفض خدمة​​ أعداء شعبه،​​ الذين نهبوا القرى ومحصول الأرض ومخزونات الفلاحين،​​ وجندوا الشباب في جيوشهم لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل!

 

والبعض​​ الآخر​​ قال​​ إنه كان شيخاً صالحاً ورِعاً،​​ وكاتب​​ تعويذات​​ يستجيب الله لحامليها، بل ونسبت​​ له​​ عجائب كثيرة تحققت على​​ يد الشيخ دبور، ووصل الأمر بأحد​​ أغنياء البلدة​​ أن قرر​​ إقامة مقام يليق بمكانة الشيخ دبور،​​ الذي تباركت زوجته​​ بخشوع​​ أمام قبره،​​ ومن يومها وهي لا تلد​​ إلا الصبيان، بعد مصيبة ولادة ثلاث بنات واحدة بعد الأخرى، حتى ثار شك الزوج بنفسه ورجولته.

 

وهكذا تطور قبر الدبور الى مقام مقدس،​​ يعرف بمقام الشيخ الصالح دبور.

 

لكن جاءت​​ إسرائيل​​ ومستوطنوها طويلو​​ السوالف​​ معها،​​ فاقتلعوا بعض الأشجار المثمرة من الأراضي المحيطة بهم،​​ واكتشفوا فجأة قبر الشيخ دبور في هذا الفضاء الطبيعي الهادئ.

 

بدأت المشاورات بين طوال اللحى والسوالف،​​ وجاء عشرات منهم يحملون التوراة وينشدون ويرقصون، لم يفهم​​ أهل البلد ما الذي يجري، كانوا يخافون من الاقتراب من المستوطنين الذين يتصرفون بعنف وشراسة مع الأغيار الفلسطينيين، طبعا تحت حماية الجيش.

 

حدثت مناوشات لطردهم من أرض​​ المراعي،​​ ففي فجر أحد الأيام بدأ الشبان طويلو السوالف بإقامة سياج حول القبر،​​ ووضع يافطة جديدة بلغة استعصى على​​ أهل البلد فك رموزها، لكن المختار استفسر عن الأمر في المدينة القريبة،​​ وجاء بالخبر المزعج​​ بأن المستوطنين المتدينين اليهود،​​ يعتقدون​​ أن القبر لحاخام يهودي​​ مشهور قتله العرب في ثورة 36، وأنهم قرروا استعادة حقهم واصلاح الغبن الذي طاله من الأغيار (الغويم/ أي غير اليهود).

 

أهل البلد كانوا على ثقة​​ أن المدفون هو شيخ عربي صالح من​​ أبناء جلدتهم ودينهم، بل قال كبار السن​​ إن البلدة عام 36 كانت عبارة عن عشرة​​ مضارب بدوية يقطنها بعض الرعاة الفقراء،​​ الذين لا همَّ لهم​​ إلا الحصول على ما يقيتهم ويقيت​​ أولادهم، وإنهم لم يشاركوا في ثورة ال 36 ولم يكن في المنطقة أي يهودي ليقتلوه.

 

استهجنوا​​ أن يهتم طويلو اللحى والسوالف بقبر الشيخ دبور،​​ الذي كل ما يعرف عنه​​ أنه مقاتل مؤمن،​​ وقف وحيدا ضد السلطنة العثمانية الظالمة،​​ ولم يتردد في مواجهة جنودها في​​ معركة شرسة، قتل منهم عشرة قبل​​ أن ينفد​​ منه ما يحمله من "فشك"،​​ مما سهّل على الجنود الأتراك قتله. بعض كبار السن يتناقلون معلومة​​ تقول:

 

إن قبر​​ دبور​​ الذي​​ لسع راعيا..​​ أقام​​ الراعي على شرفه قبرا لأنه أثبت​​ رجولة يفتقدها قادة العرب، لكن هذا الكلام وصف بكلام "خرفانين"،​​ وأن الشيخ دبور شيخ له فضله الكبير على أهل البلد، بل ذهب البعض الى سلسلة أصله وفصله،​​ وأوصلوه الى قبيلة عربية من​​ أرض الحجاز المباركة.

 

بعد شهر من بدء سيطرة طويلي السوالف على مقام طيب الذكر الشيخ دبور، أطلقوا عليه اسما يهوديا،​​ وعلّقوا لوحة مكتوبة بلغتهم عن اسمه،​​ وتاريخ مولدة وسنة قتله على​​ أيدي العرب،​​ فنظفت الأرض حوله،​​ وزرعت الزهور​​ وحضر حاخامات وأقاموا الصلوات وأدخلوا التوراة للمقام،​​ وعلقت يافطة تعلن​​ أن المكان مقدس حيث دفن رابي صاحب عجيبة. ثم أحضروا شاهداً​​ للقبر من الرخام، كتب عليه:"هنا يرقد الرابي صاحب العجيبة دفور بن منشي"!!

 

لو عرف الدبور ما سيؤول​​ إليه مصيره؟​​ لما لسع كف​​ الراعي المسكين!!

nabiloudeh@gmail.com

 

للمشاركة

Nabil oudeh

نبيل عودة كاتب من فلسطين

Read Previous

مهرجان الأفلام الاوروبية الثالث والثلاثين

Read Next

رَحيقُ الأُمْنياتْ

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *