مُطالعة بعيونٍ مُغمضة

 

 

مُطالعة بعيونٍ​​ مُغمضة

 

إبراهيم يوسف​​ ​​ لبنان

 

الـنِــهَــايــَـة | رابندرانات طاغور

 

"هكذا نريدُه​​ قيمة تحتفظُ​​ 

بفاعليتها على مَرّ​​ العصور

​​ للوصول إلى الينابيع الفكرية وحركة​​ 

الثقافة بأهون السبل..​​ وأقلّ​​ التكاليف"

 

أمّا وقد​​ أخذتُ على نفسي أن أعقِّب​​ 

على نص:​​ مملكتي الصغيرة

​​ لشهربان معدي..​​ عافاها الله

 

الجارة​​ العزيزة​​ والكاتبة من الجليل

المنشور في الروافد.. فها​​ أنا

أفي بتعهدي لها

آملاً​​ أنني قلتُ​​ ما يرضيها ويقنعني

 

في طريقي​​ إلى​​ الحافلة​​ التي​​ كانت​​ تقلني إلى​​ عملي في​​ شركة​​ طيران الشرق الأوسط،​​ كنت أشتري يوميا صحيفة السفير​​ من بائع متجول،​​ يرابط​​ صباحا​​ على الزاوية​​ في بداية الطريق،​​ المؤدية إلى المطار​​ المقابلة​​ لقصر​​ العويني.​​ 

 

وأستفيد من​​ مسافة​​ الطريق​​ واستراحة​​ الفراغ​​ بين عمل وآخر،​​ وأكتفي بقراءة​​ العناوين​​ وبعض التفاصيل، ثم أحملها معي عند​​ عودتي إلى المنزل​​ وأفلِّيها من الافتتاحية،​​ حتى​​ السطر الأخير من​​ أخبار العالم​​ في نهاية الجريدة.​​ 

 

وكنت​​ حريصا​​ على شراء​​ الصحيفة في أول​​ الشهر،​​ فأحظى​​ معها​​ ب"الكتاب للجميع"، تعيد إصداره مؤسسة المدى،​​ وتوزعه​​ دار​​ السفير​​ مجانا​​ مع العدد الأول​​ من بداية​​ الشهر. ومما جاء على الصفحة الأخيرة من السلسلة:​​ 

 

"هكذا نريده​​ قيمة​​ تحتفظ بفاعليتها على مرّ​​ العصور، للوصول إلى​​ الينابيع الفكرية وحركة الثقافة​​ بأهون​​ السبل وأقل التكاليف".​​ وهكذا حصلتُ​​ على كتاب من​​ هذه​​ السلسلة، مخصص لبعض آثار رابندرانات طاغور.​​ لا أعرف​​ حقيقة​​ أين​​ اختفى​​ من عندي​​ الكتاب؟​​ لكنني​​ دوَّنت في ذاكرتي نصاً​​ يلحُّ​​ عليّ​​ ويراودني​​ مضمونه من حين إلى حين.

 

والسفير التي انخرطتْ​​ في العمل الوطني​​ وناضلتْ​​ على مدى عقود.​​ كانت​​ رائدة​​ فاعلة​​ في الصحافة. لكنها​​ للأسف​​ أقفلت مغلوبة​​ على أمرها​​ فأطفأت أنوارها​​ بلا رحمة،​​ وتوقفت عن الصدور​​ بعد​​ ​​ مسارٍ مغاير​​ في​​ التاريخ. ثم تنازلتْ​​ بشجاعة عالية​​ عن مكتبة كانت​​ تملأ​​ طبقة​​ كاملة​​ في​​ دار​​ السفير،​​ وتبرّعت​​ بها​​ لصالح​​ دارعامة​​ للكتب​​ في​​ بيروت.​​ ​​ 

 

مهما يكن الأمر؟​​ فقد اختفى​​ من عندي كتاب طاغور..​​ منارة الهند​​ وشمسها المشرقة. الهند​​ التي​​ تحولت إلى دولة​​ نووية،​​ بفعل​​ نزاعها مع​​ باكستان​​ على كشمير،​​ وقد​​ نال منها وأنهكها الوباء​​ والفقر​​ والجوع.​​ لكن رجاء​​ بالخلاص​​ يتجدد مع​​ صباحات الشمس​​ المشرقة، يحمله​​ هذا​​ النبيّ​​ الشاعر​​ ليس للهند وباكستان فحسب؟​​ بل لسائر​​ البشرية.​​ 

 

وأشهد​​ للوفاء​​ والبُقيا​​ أنني​​ "أحببتُ"​​ من الهند​​ في مدى عمري​​ "إلْسَا"​​ راهبة​​ بعينيّ​​ وحضور​​ المسيح​​ -​​ الإسم الذي يوحي بالشعر في قصيدة​​ "عينا إلسا​​ -"​​ للشاعر والأديب والناقد الفرنسي "لويس آراغون"،​​ من​​ أبرز وجوه المدرسة السريالية،​​ وقد قام بترجمة القصيدة​​ الدكتور "الطبيب"​​ شوقي يوسف،​​ ونُشرت​​ في موقع​​ السنابل باللغتين​​ العربية والفرنسية​​ معا،​​ وعقبتُ​​ يومئذ​​ على الترجمة​​ بإسهاب​​ ​​ كما​​ عرفتُ​​ "إقبال" صديقا​​ لمّاحا​​ أبرع من​​ عرفت​​ في​​ الهندسة​​ والرياضيات.​​ "إلسا وإقبال"​​ يحملاني​​ على التأكيد​​ أن الهند حضارة مجيدة​​ وشعب​​ أصيل.​​ ​​ ​​ 

 

حينما​​ خلق​​ الله​​ الإنسان​​ على صورته ومثاله؟​​ حَمَّله​​ بين​​ ضلوعه فطرة​​ صافية​​ سليمة. لكن​​ المطبَّات​​ تنحرف به​​ نحو​​ المعصية​​ والزّلل. وما دمنا​​ "محكومين بالأمل"​​ مهما عصفت بنا رياح الكون وتمادت​​ فينا​​ دواهي​​ البلاء،​​ فقد تواصلت​​ محاولات​​ صادقة​​ جادّة​​ "لتقويم​​ البشر"،​​ وطاغور​​ من​​ أروع​​ المحاولات​​ التي تعزِّز في​​ قلوبنا​​ الرجاء.

 

​​ لعل يوما يأتي​​ يصحو​​ فيه​​ الإنسان​​ لنفسه،​​ ويدمّر​​ بيديه​​ ما ابتكره​​ من آلآت​​ القتل​​ والخراب،​​ ويعود​​ لطاغور​​ يذوب في​​ معانيه،​​ ويسعى​​ للتفتيش عن ابتكارات جديدة​​ لتأصيل القمح وأنواع​​ الحبوب، وأدوية فعالة لمكافحة الأمراض.​​ 

  ​​ 

وكنت قد قرأت في​​ الكتاب​​ ترنيمة​​ رخيمة،​​ ودهمني​​ فيضٌ من​​ سحرٍ​​ ما قرأت. فتشت عما قرأته​​ طويلا ولم أعثر على​​ غايتي من​​ الكتاب.​​ هكذا سأحاول أن أنقل​​ بحذر شديد​​ ما علق​​ في ذهني​​ من الصلاة،​​ وما انطبع​​ في​​ وجداني​​ بعناية عالية،​​ لئلا​​ أسيء​​ لطاغور​​ شاعر​​ الهند وشمس الأرض​​ المشرقة.​​ وهاك​​ ما طالعتُه..​​ ولو​​ بعيون مُغمضة.​​ 

 

"​​ لطالما​​ كنت أعاني​​ من​​ الفقر والحرمان​​ والجوع،​​ وأنا​​ أتجول​​ أسْتَجْدي مِن بابٍ ألى باب،​​ عندما​​ لاحَتْ لي مركَبَتُكَ الذهبيَّةُ من بعيد. كانت حلما​​ رائعا​​ وكتلة​​ من​​ نور​​ بددت​​ عتمة الكون،​​ وأضاءت متاهة​​ نفسي​​ وزوايا​​ قلبي​​ الكسير.​​ 

 

وصرتُ أرنو بقلبي​​ وجوارحي​​ وعينيّ​​ إلى​​ من كانَ ملكَ الملوك، وعلّلتُ نفسي بأنَّ أيامَ بؤسي قدِ انقضتْ،​​ وأقبلتْ​​ أيامُ​​ نعيمي​​ وسعدي. وها أنا أنتظرُ منكَ العطايا السَّخِيَّة، منثورةً​​ هنا وهناك​​ في​​ الطرقات​​ وعلى​​ مساحات​​ الحقول.​​ 

 ​​​​ 

وإذْ تَوَقَفَتْ​​ مركبتك​​ إزائي، وطالعتْني عيناكَ الرحيمتان..؟ وأنتَ​​ تتقدم نحوي​​ وتبْتسمُ لي، فشعرتُ أنَّ فرصتي في الحظِّ قد أقبلتْ أخيراً.. فالسَّاعةَ ينتهي الفقرُ، ويتبدَّدُ الحرمان!؟ لكن​​ آهة​​ حرّى​​ انطلقت من أعمق نقطة في القلب.​​ 

 

فأيُّ عَبثٍ مَلَكيِّ هذا؟!

 

حينما نزلتَ من مركبتكَ ومددت​​ راحتيكَ نحوي​​ تسألُني: ماذا أحملُ لكَ من هبات؟ ارتبكْتُ وحِرتُ في أمري! كيفَ​​ لملك الملوك​​ أن​​ يبسط راحتيه أمام​​ شحاد​​ فقير؟!​​ ثُمَّ تناولتُ مما تسولتُه حبَّةَ قمحٍ حقيرة وألقيتُها بخفةٍ بينَ يديك.

 

وَلَكَمْ كانَ عَجَبي عظيماً وحيرتي مُذْهِلةً آخِرَ النهار، حينَما وجدتُ وأنا أُفرغُ غلّتي على الأرضِ، حبَّةً منَ الذهبِ الخالص، بينَ أكوامٍ منَ الحبَّاتِ الحقيرة. وبَكيتُ أحَرَّ بكاء..​​ وتمنّيتُ لو أنني أُوتِيْتُ الجرأةَ لأهَبَ لكَ عمري​​ كلَّه".

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

القلوب صناديق مغلقة

Read Next

الحب في زمن الكوليرا

11 Comments

  • طاغور احتضن العالم بقلبه، وأعاد رسمه بألوان زاهية جديدة كما صورته له إنسانيته، رأى الجمال في كل الأشياء وأدرك قيمة الحب والحياة والأمل.. و طبائع البشر. في صلواته بوح بأسرار الحياة، ووفرة من الحكم وكنوز من الروحانية والتأملات. أحببت روح طاغور وأحببت روحك يا أستاذي وصديقي.

  • عزيزتي إيناس

    ” يا رب؛ إذا أعطيتني نجاحا، فلا تأخذ تواضعي. وإذا أعطيتني مالا، فلا تأخذ سعادتي. يا رب؛ علمني أن التسامح، هو أكبر مراتب القوة، وأن حب الانتقام، هو أول مظاهر الضعف.”

    مثل هذه الأدعية يا صديقتي؟ لا تصدر إلا من وجدان الأنبياء.. وصفوة الصفوة من بني البشر. كطاغور والخيام وأبي نواس وحافظ الشيرازي.. وجبران… وغيرهم من عباقرة الزمان.

  • صديقي إبراهيم

    أعجبني طاغور وهو يدلل المرأة ويقدسها فيتفوق على قصائد نزار قباني حيث يقول:
    “ليست المرأة رائعة الله في خلقه وحسب بل رائعة البشر أيضا…نظرة منك أيتها الحلوة تسيل كنوز الأناشيد من معازف الشعراء.”
    العظماء كطاغور تراث الإنسانية.. ونعيمهم حياة أبدية في القلوب.

  • عزيزي وصديقي أستاذ إبراهيم

    أمام الكلمات التي خطها قلمك
    لا يمكن إلا أن ننحني
    لفطنتك وتواضعك وبراعة فكرك ورشاقة أناملك

    افترشت بساط العفوية وغازلت أحلى الكلام
    تستفز به نفوس أهل المعرفة
    وتتوسل في خطابك أن يعود الناس إلى أصالتهم
    التي غيبوها بجشعهم وعصبياتهم وجهلهم

    فأتقنت العزف على الوتر الحساس لينساب النغم
    مع كل خفقة قلب وتعود النفوس
    الى الرضا والنقاء في عالم ملأته الملوثات والأحقاد

    صباحك نقاء القلوب وطهارة الأرواح.. وأحلى الكلام

  • (لعله من باب الأنانية… وحب النفس في خدمة الآخرين ومساعدتهم؟؟)
    (يربح الانسانُ ما يعطيه)
    هذا ما سمعته مرة على لسان الوزير أسعد دياب طيب الله ثراه
    لعلّه بقوله هذا؟ إنما كان يعني – رحمة الله عليه – حبة القمح في قول طاغور.

  • ردا على الصديقة المَعنيّة بتوجيه الملاحظة؟
    المسألة بصدق خالص.. ليست مُلزِمة أبدا
    فالمادة يا صديقتي معروضة فقط لمن يرغب

    هكذا تكون المطالعة حقا بعيون مغمضة!
    وعندما تكون العيون مغمضة أو غافلة؟
    تكون معذورة فعلا عمّا لا تراه من حولها

    لا ينبغي البناء.. إلاّ على النوايا الطيبة
    خالص مودتي.. المحبون أولى بالمعذرة

  • حبيب قلبي دكتور أحمد

    الدكتور أسعد…. كان كياناً يفيضُ بالمحبة والتواضع والعطاء
    وإذا كانت فيك نفحة من نيلسون مانديلا كما قلت لك مرة؟
    وإذا كان أحمد على وزن أسعد وأفعل، وعلى وزن أحسن وألطف؟

    فنفحة الدكتور أسعد..؟ ويجب أن تصدقني في الحالتين
    من أنفاس نبي الهند وشاعرها طاغور
    لأنه كان موضع محبة الناس وثقتهم وأنا واحد من هؤلاء
    وأشهد أنه كان صاحب مرتبة عالية في وجدان جميع من عرفوه
    افتقدناه باكرا جدا.. وكان يستحق من أجلنا أن يعيش عمرا أطول

    يطول بعمرك ويخليك خيِّ وحبيب قلبي د. أحمد
    أنت لا تعيد للموقع حيويته وبهاءه فحسب؟
    أنت تعيد البهاء والحيوية والعافية.. لنبضات قلبي
    هذا ما كنت أقوله لشريكتي في شبابي

    فكن دوما بخير.. وَتَوَقَّ الجرعة الثالثة
    من اللقاح الذي أصابتني بفعله الأهوال

  • عزيزتي يا عاشقة الأدب.. لئن كانت المرأة قد استوفت بعض حقها علينا، بما قاله فيها نزار قباني وعمر بن أبي ربيعة وسواهما..؟ فإن طاغور شأن مختلف تماما، عندما أدرك البشرية بحضوره، وكساها ببديع صلواته وشعره.

  • الصديقة الغالية ليلى

    “ليلى وما سمَّى العرب ** أحلى ولا غنَّى القصب”
    لبنى وسلمى وعزة وغنوى وفدوى .. وليلى
    أنت أفعل التفضيل وأقسم بالله العظيم.. أنك الأجمل
    أنت في خاطري، صباحك ومساك وأيامك كلها فرح

  • “وَلَكَمْ كانَ عَجَبي عظيماً وحيرتي مُذْهِلةً آخِرَ النهار
    حينَما وجدتُ وأنا أُفرغُ غلّتي على الأرضِ
    حبَّةً منَ الذهبِ الخالص، بينَ أكوامٍ منَ الحبَّاتِ الحقيرة.
    وبَكيتُ أحَرَّ بكاء..
    وتمنّيتُ لو أنني أُوتِيْتُ الجرأةَ لأهَبَ لكَ عمري كلَّه”.

    في صمتنا يا صديقي يكمن أحيانا أبلغ الكلام
    والعمر رخيص على من منحونا عاطفة قلوبهم
    وأهدونا عُصارة فكرهم ونور بصرهم وبصيرتهم

    فأنت لا تحرك زهرة، إلاّ وتهتزّ معها إحدى النجوم
    ولا تُخلّد فكرة، إلاّ وتزهر بها روحك
    فتسمو وترتقي معها كلّ حواسك نحو المُطلق
    نحو الشّمس المشرقة التي لا تغيب
    كشمس طاغور تجاوزت حدود الهند إلى الدنيا
    لتشرق على العالم في كل مكان.. وزمان

    أما لطافتك وبيادر سنابلك المليئة بالغلال
    فغمرت روح كلّ من عرفك أستاذ ابراهيم

    هذه الترانيم الرخيمة التي كتبتها لنا بعيون مغمّضة؟
    هي قوت للقلوب ..وسنابل موشاة بالذهب..
    تهدهدها بجذالة في دهاليز الروح العميقة

  • الأستاذة الصديقة شهربان معدي

    هذه الإپسلون (épsilon) العلمية
    في الفيزياء الكهربائية والرياضيات؛ وغير ذلك

    وتعني كمية لا نقوم بحسابها..؟
    وانما تظهر قيمتها في عملية مقارنة
    وهذا التعريف قاصر لا يرقى إلى الدقة

    ربما تشرحها لك زميلتك في التعليم
    مدرِّسة الرياضيات بإيضاح وكفاءة أوفى

    تلك الإپسلون الملفتة التي سَخَّرْتها
    في خدمة المشاعر والتعبير الأدبي بقولك:

    “فأنت لا تحرك زهرة، إلاّ وتهتزّ معها إحدى النجوم”

    “ولا تُخلّد فكرة، إلاّ وتزهر روحك معها
    فتسمو وترتقي معها كلّ حواسك نحو المُطلق
    نحو الشّمس المشرقة التي لا تغيب

    كشمس طاغور التي تجاوزت حدود الهند
    لتشرق على العالم في كل مكان.. وزمان”

    مشاركتك تترك أثرا طيبا في الروافد
    ومرورك.. يحمل معه عطر النسرين
    من جوار إقامتكم.. في ربوع الجليل

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *