بينهُما.. خبزٌ وملح

بينهُما..​​ خبزٌ​​ وملح

 

إبراهيم يوسف لبنان

 

ترنيمة رخيمة

أنشدتْها ملائكة السماء

ترحِّب بنجاة تقول لها

 

لا عليك.. لا عليك أبدا

لا تخافي أو تجزعي​​ 

 

في قلب الله​​ 

وبين​​ يديه أنت​​ يا نجاة

 

C:\Users\ibrah\Pictures\Pictures from camera\P1070591.JPG

 

قبلَ​​ الانطلاق،​​ قمنا​​ بكشف دقيق​​ على السيارة.​​ شملَ​​ خزان الوقود،​​ زيت ومياه تبريد المحرك، زيت​​ علبة السرعة ومقود "الإيدروليك"،​​ ضغط الإطارات وحالتها​​ العامة،​​ ثم​​ الكوابح..​​ فالمصابيح. زوجة ابني​​ رفيقتي​​ وصَفِيَّتي​​ وأنيستي في رحلتي؛​​ تتولى القيادة​​ بكفاءة​​ عالية،​​ ردَّةُ فعلها كلمح البصر.​​ لا تتعدى السرعة المحدَّدة​​ ولا تخاطر؛​​ خاصة عند​​ المنعطفات​​ أو​​ على​​ الطرق الدولية السريعة،​​ حيث​​ التهاون ممنوع، والخطأ​​ لا يتكرر مَرّتين.

 

بمساعدة الملاَّحِ الآلي​​ (Navigator)​​ انطلقنا من "سالو"​​ في الشمال الإيطالي، الواقعة​​ على​​ الطرف الجنوبي الغربي​​ من بحيرة "غاردا"،​​ تغسلُ في بعضِ النواحي أقدامَ جبالِ​​ "الألپْ"، وتمتد لعشراتِ الأميال من الجنوب إلى الشمال.​​ تتربَّعُ​​ بسكينةٍ​​ وهدوء​​ وسلام​​ في منتصف الطريق،​​ ما​​ بين ميلانو غرباً،​​ والبندقية​​ إلى الشرق.​​ تتميز​​ البحيرة​​ برياضة التزلج على الماء،​​ والملاحة​​ السياحية والتجارية معاً.​​ انطلقَتِ​​ الرحلةُ​​ عبرَ​​ طريق دولية باتجاه​​ "ڤينيسيا-​​ ڤيرونا".​​ ڤيرونا​​ موطنُ روميو وجولييت، طيَّبَ​​ اللهُ​​ ثرى المحبين​​ والمحبوبين​​ وثرى...​​ نجاة.​​ ​​ ​​ ​​ 

 

حقولُ الذُّرة​​ ومختلف المزروعات، تنتشرُ في السهولِ​​ على جانبي الطريق حتى​​ "بولونيا".​​ وبيوتُ​​ الفلاحين​​ تبدو​​ موزّعة​​ ومتباعدة،​​ تلوحُ​​ عليها أتعابُ أصحابِها، فحيطُانُها متفسخة​​ تفتقرُ​​ للطلاء، وقرميدُها​​ متسخ​​ داكنُ​​ اللون وشبابيكُها مهملةٌ​​ وسوداء.​​ تتجمعُ​​ حولَ​​ بعضها​​ كُوَمٌ من​​ العتادِ​​ الزراعي​​ المَنْفي​​ والأمتعةِ​​ التالفة. لعلّ​​ الفقر​​ هو الجامع​​ المشترك​​ الأبرز​​ في​​ الدنيا​​ بين​​ مختلف​​ المُتْعَبين،​​ من​​ عمال البحر​​ وصيادي​​ الأسماك..​​ والفلاحين​​ على الأرض.​​ 

 

في الطريق؛​​ وجفنات كروم​​ العنب​​ ترتفع​​ عمودية، لتنالها​​ أشعة الشمس​​ جيدا​​ ويغدو خمرُها وخلُّها البلسمي أطيب، تشكل​​ أبرز مزروعات المنطقة​​ وتحفُّ بالطريق​​ على الجانبين.​​ توقفنا​​ لاستراحة قصيرة​​ في​​ أولى ضواحي​​ "مودينا"...​​ مسقط رأس المغني الأوپرالي"باڤاروتي".

 

ألمدينة​​ المتفوقة في إنتاج الخمر​​ والخل البلسمي،​​ الشهيرة​​ بصناعة السيارات الرياضية​​ ذات​​ الكفاءة​​ العالية.​​ كسيارات​​ فيراري ولامبوريني.​​ والعريقة​​ كذلك​​ بتدريس الطب والقانون.​​ 

 

كنَّا قد​​ بلغنا​​ "بولونيا"؛​​ منتصفَ​​ الطريق،​​ مروراً "بمانتوڤا ومودينا"​​ عندما​​ بَدأَتْ​​ تلوحُ​​ لنا الجبال ذات الطبيعة الساحرة،​​ تزيدُها​​ الأحراجُ​​ جمالا​​ ومناخا معتدلا لطيفا،​​ وأشجارُ​​ الزينة تنتشرُ​​ بكثافة​​ حولنا،​​ فضبابٌ​​ كثيف​​ يخيِّمُ​​ على المنخفضات، يذكرني بوادي​​ "حَمَّانا"​​ عندنا.

 

أو وادي​​ "لامارتين"​​ في لبنانَ الأخضر​​ ألمشهور بمناخِهِ​​ وسياحته،​​ بأرزه​​ وجباله​​ وسهوله​​ وأنهاره؛​​ وطوائفه​​ أيضاً!​​ وساستِهِ​​ المُرْتَكِبين​​ المرتهنين​​ الفاسدين​​ منذ​​ عهده الأول.​​ لبنان​​ خيّب​​ ظِنَّ أبنائه بنظامه​​ وحكامه،​​ وذكرى​​ الشاعر​​ زارنا​​ مرة..​​ وأطلقوا اسمه على الوادي​​ الشهير.​​ 

 

ولامارتين​​ من خارج سياق النص، صاحب قصيدة البحيرة ترجمها للعربية​​ نقولا فياض​​ طبيب وشاعر​​ "لبناني"،​​ لتتفوق​​ الترجمة على القصيدة​​ الأساسية​​ بشهادة كبار الشعراء.​​ أرأيت يا صاحبي كيف أمعن ساستنا في تشويه سمعتنا..​​ بما يحفل به​​ تاريخنا​​ الأدبي المجيد. ​​ 

 

ومقالتي هذه​​ منشورة في "عود الند"،​​ يعود​​ تاريخ نشرها​​ لأكثر من​​ عشر سنوات.​​ هؤلاء​​ أشعلوا الحرب الأهلية في البلد الجميل،​​ ثم​​ اسْتَوْلدوا أنفسَهم​​ بقانون انتخابي​​ مزيّف​​ مارق​​ فصّلوه بأيديهم لأنفسهم،​​ وعادوا​​ يحكمونا​​ ويستبدون​​ بنا من جديد. ما أنفقوه على الحربِ​​ الأهلية؟ لو أنفقوه على التنمية، لكان من أمره ما كان!؟​​ لكنهم عادوا بنا إلى سياسة التركيع.​​ ​​ 

 

أما​​ "بولونيا"​​ المدينة​​ الإيطالية​​ الساحرة،​​ فقد حباها الله​​ وخصّها بطبيعة خلابة، زادَها جمالاً حسنُ​​ التخطيط والعناية الوطنية​​ الرشيدة.​​ هي إحدى أكثر المدن الإيطالية تقدماً وازدهاراً،​​ لموقعها​​ الجغرافي​​ السياحيّ​​ المميز، على شبكة​​ سكك القطارات،​​ والطرق الرئيسة السريعة.

 

في رحلتنا​​ مررنا في أنفاق طويلة قبل بلوغ ضواحي​​ فلورنسا، وكان الطقسُ​​ ماطراً والبرودة منعشة خلافاً للمسافاتِ​​ الطويلة التي طويناها​​ في السهول، واستخدمنا خلال جزء منها​​ مكيفَ​​ السيارة بطاقة تبريد عالية. وفرةُ​​ المياه​​ في إيطاليا عموما،​​ من أسبابِ​​ حضارةِ​​ وازدهار هذا البلد الجميل.​​ فأنّى يوجدُ​​ الماء​​ عبر الزمن، كانت تنشط أسباب​​ الخير والرخاء.

 

على​​ الروابي​​ ومنحدراتِ الجبال؛​​ بيوتٌ​​ فخمة​​ من طبقة واحدة​​ مُسْتَكينة​​ بوداعة من شدِّة​​ الهدوء،​​ معظم​​ سطوحِها من القرميد، تنتشرُ​​ معزولةً​​ متباعدة ومتناثرة هنا وهناك،​​ يمكنُ​​ للرجل​​ أن​​ يقاسمَ​​ امرأتَهُ​​ سعادتها​​ وهناءَة​​ العيش؛​​ فيرودَها​​ متى شاء​​ دون أن يطرقَ​​ بابَهُ​​ أحد.

​​ 

تَبَدُّلٌ مُفاجىءٌ في المناخ،​​ ومحميةٌ​​ حُرجيِّة،​​ تعيش​​ فيها​​ أنواع​​ الحيوانات البرية، أبرزها الغزلان؛​​ وتحذير للسائقين​​ بالتمهل وتوخّي الحيطة والحذر​​ في العبور على الطرقات،​​ وطيور اللقلاق ترتاد بحيرة في المكان،​​ وسُحُبُ​​ ال(Cirrus)​​ تتهادى​​ عالية​​ تتناثر​​ في الفضاء.

 

​​ قطعنا​​ في​​ ثلاث​​ ساعات​​ أو ما يزيد،​​ مسافاتٍ طويلة للوصول إلى فلورنسا،​​ تخللتها استراحة قصيرة​​ في الطريق​​ حيث​​ تناولنا القهوة والمرطبات.​​ ألمشاتل الزراعية​​ ومعارض مختلف الأشجار المثمرة​​ وأشجار الزينة،​​ كما أنواعٌ​​ من زراعات مختلفة​​ تحفُّ​​ بجانبي الطريق.​​ فبلغنا​​ "پيستويا"​​ خلال​​ بعض أرباع الساعة،​​ محطة​​ رحلتنا​​ الأخيرة​​ حيث نمنا ليلتنا الأولى.​​ 

 

في "بيستويا"​​ استضافتنا نجاة سيدة مغربية.. إنسانة صلبة​​ بلا صخب؛ لا تعرف​​ الهزيمة​​ والتراخي،​​ متفائلة لا تعرف التشاؤم، نشيطة لا تعرف التعب، وجميلة جداً بعينيها البنيتين​​ الفاتنتين، وشعرها الأسود الطويل؛​​ ووجهها المشرق..​​ وبسمةٌ​​ ساحرة​​ قلما​​ فارقت​​ محيّاها.

 

عِلتُها​​ كما تناهى إليّ؟​​ في ابنها البكر؛​​ وابنها لا يشكو​​ إلاَّ من المبالغة في الخوف عليه أينما حلّ​​ أو رحل، وأشهدُ​​ للحق أنه​​ يتميز​​ بالعفوية​​ والرصانة، والحضور الواضح، والمنهجية الدقيقة الواعية في التخطيط لمستقبل أفضل.​​ شاب يثيرُ​​ الغيرة​​ في النفوس الحسودة.​​ مازحتُها​​ ​​ قائلا​​ لها:​​ العلّة في الأم​​ يا ست نجاة​​ وليستِ​​ العلّة في الولد، أيوب​​ معك..؟​​ اسمٌ​​ على مسمّى!

 

في منطقة "التوسكانا"؛​​ حيث​​ "فلورنسا وبيستويا"​​ وغيرهما​​ من المدن والبلدات.. يتميزون برقة في الكلام،​​ لا يُدَحْرِجون الراء​​ لتتحوَّلَ غَيْناً​​ على​​ مذهب "الپاريسيين".​​ بل​​ يدغدغون​​ بلهجتهم​​ المحليَّة​​ المحببة​​ قلوب​​ الناس​​ برقة بالغة..​​ فتلك​​ الحروف​​ التي​​ تتهادى​​ بدلال من​​ الحناجر والأفواه،​​ تأتي​​ عذبة​​ جذلى​​ من الأعماق، كما لو أن​​ شِدَّةَ​​ الدال​​ رَقَّتْ​​ وتحوَّلتْ​​ إلى​​ ما​​ يشبه​​ التاء​​ أوالثاء،​​ والكاف قريبة من الهاء​​ وآخر الكلام يأتي كمن يوشوشُ​​ فيهمس​​ أو يتنهد.​​ 

 

 

C:\Users\Ibrahim\Desktop\96764_1309948546.jpg

 

لوكا​​ التوسكانا

 

كانت نجاة مضيفتُنا ودليلتُنا السياحية. وقد​​ اقترحت علينا قبل النوم أن نبدأ رحلتنا​​ غدا​​ بفلورنسا. وفي​​ محطة القطارات​​ صباحا،​​ أبتْ​​ بشهامةِ​​ البدو في الأردن​​ أو في بادية الشام،​​ إلاَّ أن تتولى​​ شراء بطاقات السفر من مالها..​​ وهي كما بدا لي؟​​ ليستْ​​ في بحبوحة​​ أو رخاء.​​ 

 

تقع​​ "فلورنسا" في مقاطعة "ألتوسكانا"​​ إلى الجنوب بانحراف إلى الشرق من​​ مكان إقامتنا في "بيستويا"."​​ وفلورنسا"،​​ واحدة من ثلاث مدن تتميز بأهمية​​ لا نظيرَ​​ لها في إيطاليا..​​ إضافة إلى "ڤينيسيا" وروما، وكانت​​ ذات يوم صفوةَ​​ الصفوة في​​ النهضة​​ الأوروبية​​ بأسرها.

 

في​​ الحربِ​​ العالمية الثانية، قصفَ​​ الجيشُ​​ الألماني المدينة بالقنابل، ودمّرَ​​ معظمَ​​ الجسور،​​ ليمنع أو يعرقل​​ تقدّمَ​​ القوات المعادية.​​ لكنهم​​ حَيَّدوا​​ من القصفِ​​ "الجسرَ​​ القديم"،​​ بأمرٍ​​ مباشر من الفوهرر​​ حرصاً على اللوحات​​ والتماثيل،​​ والتحف الفنية النادرة​​ في المتاحف​​ والقصور​​ المتاخمة للجسر، وعلى وجه الخصوص متحف "أوفيزي" وقصر "پيتي". لكن الألمان كانوا يجهلون أن المقاومة هرّبتْ​​ معظمَ​​ اللوحاتِ​​ والتماثيل، وخبَّأتها في قلاعٍ​​ وقصورٍ​​ نائية.

 

C:\Users\ibrah\Pictures\Pictures from camera\P1070469.JPG

 

من أبرزِ​​ المعالم الأثرية التي زرناها في المدينة، ساحة"الدومو"​​ تعجُّ​​ بالسياح من كل جنس ولون​​ ولسان،​​ والكنيسة​​ تتسعُ​​ لعشرات الآلاف من الناس.​​ تقولُ​​ نجاة: إن بناء​​ الكنيسة​​ استغرق​​ ما يربو عن مئة عام،​​ والعهدة دائماً على نجاة.​​ وتتميزُ​​ الكنيسةُ​​ بلوحاتٍ​​ نادرة، ورخامٍ​​ ملوّن غايةً​​ في الروعة والإتقان،​​ وفي الساحةِ​​ إياها يقومُ​​ تمثالُ​​ الرحمة لمايكل​​ أنجلو.

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\تمثال الرحمة.jpg

 

في ساحة أخرى؛​​ ساحة "سنيوريا" حيث​​ "القصر القديم"،​​ ومتحفُ" أفيزي"​​ ويحتوي على مجموعة من التماثيل تعود في غالبيتها​​ "لمايكل أنجلو ودونالتو​​ ورفائيل"​​ وغيرهم،​​ ولوحات كثيرة لعل أبرزها" لوحة​​ ڤينوس​​ ربة الجمال"​​ "لساندرو بوتيشيلي"​​ ولوحة "ولادة الربيع".

 

وفلورنسا مسقط رأس"دانتي" صاحب "الكوميديا الإلهية"، الملحمة الشعرية المميزة على المستوى العالمي،​​ "ويتردّد"​​ أنها​​ ألنسخة المقلَّدة​​ أو الرديفة عن "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري.. بل ودانتي متهم بالسرقة​​ أو الاختلاس؟​​ -​​ "في الجزء الثاني من نص: لا يعرف العنصرية والتعصب"..​​ تحدثت عن أبي العلاء..​​ وعن الجنة والجحيم في​​ رسالة الغفران​​ -.​​ 

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\ولادة الربيع.jpg

 

متحفٌ آخر​​ هو قصر"مدتيشي"​​ ويحتوي على جناح​​ يعرف بجناح: "الإسلام مرآة الشرق"​​ ​​ خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن "الحرام".​​ ويعرض بعض الفنون​​ من العالم العربي والإسلامي، ويحتوي على مسرح لعشاق الأوبرا..​​ والموسيقى الكلاسيكية.

 

في​​ الطريق​​ المؤدية​​ إلى الجسر القديم، المكان الأشهر في تجارة أرقى وأجمل​​ الحلى​​ والمجوهرات في العالم،​​ منذ الألف الأول بعد الميلاد،​​ وأولُ خَزْنةٍ أو​​ مصرفٍ​​ من الحديد​​ لإيداع​​ المال،​​ لا يزال​​ يتحدى​​ من​​ موقعه​​ على الجسر​​ الأجيال،​​ وصروف الزمان​​ والمكان.

 

مررنا​​ في​​ سوقٍ للتحف القديمة​​ "ألأنتيكا"​​ وأنا دائما​​ بجانب نجاة.​​ في​​ الأزقة والأحياء والساحات التي يُغْرِقُها الرسامون​​ بلوحات تعبِّرُ​​ عن​​ تاريخ المدينة، في ماضيها وحاضرها،​​ حيث​​ أهدتني نجاة إحدى اللوحات التي وقفتُ أتأملها​​ بإمعان.​​ لم يستطع المصري "الحربوق" أن يغشَّها في الثمن..!​​ هذا المصري النحيل؛​​ لا أدري كيف حملته قدماه​​ من وادي النيل​​ ​​ ليسترزق في هذا​​ المكان..؟​​ نَقَدَتْهُ​​ المبلغَ​​ الذي ارتأتْهُ​​ دون أن يعترضَ..​​ أو يناقشها في الثمن.

 

C:\Users\ibrah\Pictures\Pictures from camera\P1070429.JPG

 

أما​​ مطاعم​​ هذه المدينة؟ فتمتاز بشهرة واسعة، في إعداد​​ كثير من أصناف اللحوم، "وكبدة" الدجاج والحساء، بالإضافة إلى المعكرونة​​ من مختلف الأصناف.​​ اختارت لنا نجاة للغداء مطعماً يطل على​​ نهر "أرنو"،​​ يخترق المدينة، ويخدعُ الزَائر​​ بأن مياهه ساكنة لا تتحرك..

 

قدّموا لنا طعاماً لذيذا​​ حقا.​​ لكنه في​​ بيروت أو​​ الشام​​ يُطْعِمُ بثمنه​​ فصيلة من العسكر​​ الجوعان. ناهيك​​ أن​​ الخبز كان خالياً تماماً من الملح، ما حملني​​ على​​ السؤال والاعتراض​​ الخجول،​​ فأنا ممن لا يستسيغون​​ الطعام بالملح القليل، فما بالُك حين يخلو​​ تماماً​​ من الأملاح!​​ 

 

وجاءني جوابُ​​ نجاة​​ بأنها ستخبرني​​ سرَّ الخبز والملح،​​ ونحن نزورُ مدينةَ​​ "بيزا"​​ في اليوم التالي.​​ "بيزا"​​ قبلة أنظار السياح..​​ المشهورة ببرجها​​ "الأعوج"، كأنه يتداعى للسقوط..!؟​​ ​​ 

 

عندَ العصر؛​​ ونحن​​ نحتسي​​ شاياً​​ بالحليب،​​ ونتناول​​ أصنافاً​​ من الحلوى،​​ أتقنَ​​ صُنْعَها​​ "أيوب"​​ كيف لا وهذا الشابُ​​ الرائق​​ المهيوب،​​ يديرُ​​ محلا​​ للحلويات في المدينة.​​ أخبرتني​​ نجاة​​ ونحن نحتسي الشاي،​​ أن الجوكوندا موجودة أيضاً في​​ "فلورنسا"،​​ لكننا​​ لم​​ نرَها​​ خلال الزيارة..!؟

 

نسخة أخرى​​ رديفة أو مماثلة،​​ تُعادلُ​​ في قيمتها​​ تلك​​ التي توجد​​ في متحف​​ "اللوڤر"​​ في باريس.​​ لكنها تجهلُ​​ أيُّ​​ اللوحتين هي الأصلية؟​​ أهيَ​​ تلك الموجودة في​​ "فلورنسا"،​​ أم تلك التي يشدِّدون عليها الحراسة في متحفِ​​ "اللوڤر"​​ في باريس؟​​ هناك​​ يقيمون جهازاً​​ فاعلاً​​ للإنذار؛​​ يتصلُ​​ مباشرة​​ باللوحةِ​​ دونَ​​ سواها؛​​ ويعملُ بدقة​​ لا تحتملُ​​ الخطأ،​​ فتاريخُ المتحف حافلٌ بمحاولات السرقة!​​ مهما يكن الأمر تقول​​ نجاة:​​ إن جدلاً قائماً اليوم في الأوساط الثقافية​​ الفنية،​​ تدَّعي أن​​ "المونوليزا"​​ ليست لامرأة! بل هي لرجل​​ خلافاً لما يعتقدُه​​ كثيرون.

 

تفاقمَ​​ الجدلُ​​ وتعالتِ​​ الأصوات في كل الساحات الفنية والأدبية،​​ تطالبُ​​ بحسمِ​​ المسألة والإجابة الصحيحة،​​ حولَ​​ جنسِ صاحب أو صاحبة​​ اللوحة.!​​ ولهذا؛​​ فقد​​ قامَ​​ فريقٌ​​ "محايد"​​ يقترحُ​​ نبشَ​​ القبرِ​​ لإجراءِ​​ التحاليل​​ على الرفات​​ وقولِ​​ الكلمةِ​​ الفصل​​ أهي أنثى .. أم ذكر..؟​​ هكذا​​ سيقتحمون​​ قبرَها​​ ويستبيحون​​ موتها​​ بلا استئذان،​​ وينغّصون​​ عليها​​ هناءةَ​​ الموتِ​​ بسلام.

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ 

​​ حتى يُحسمَ​​ الموضوع​​ حولَ​​ هوية الجوكوندا​​ والإعلانِ​​ عن النتيجة،​​ فنحنُ​​ في طريقنا إلى "بيزا"،​​ الواقعة​​ إلى الغرب​​ من"بيستويا"​​ بانحرافٍ​​ بسيط نحو الجنوب،​​ ولا تبعدُ​​ كثيراً​​ في​​ حسابِ​​ المسافاتِ​​ هنا.​​ استغرقتْ​​ رحلتُنا إلى المدينة بعضَ​​ أرباعِ​​ الساعة. لم تنقطع الخضرة​​ ​​ خلالها على​​ منحدراتٍ​​ بسيطة لا تُحتسب، قياسا لطريق​​ "مُوْنتِيْكَاتِيْني"​​ ويأتي ذكرها لاحقا.​​ 

 

ينتصبُ برجُ بيزا في​​ "ساحةِ​​ المعجزات"​​ مائلاً​​ أعوج؛ كأنه​​ في أي لحظة يتداعى للسقوط.​​ ويعودُ​​ تاريخُ​​ بنائِهِ​​ إلى مئاتٍ​​ طويلة من السنوات،​​ وقد​​ استغرقَ​​ بناء البرج​​ ما يربو عن الأعوامِ​​ المئة​​ والخمسين، ليكونَ​​ برجاً لجرسِ​​ الكنيسةِ​​ فحسب.​​ وألخللُ​​ في عمودية البرج،​​ لم يكن مقصودا في الأصل؛​​ وإنما يعودُ​​ لطبيعةِ​​ التربة​​ الهشة، كما برهنتْ​​ خلاصة الأبحاث.

 

جرتْ​​ محاولات​​ لتقويمِه​​ وتعديلِ​​ نقطةِ​​ الارتكاز​​ وباءتْ​​ بالفشل.​​ تقولُ​​ نجاة:​​ المحاولات لم تتوقفْ​​ بعد،​​ وإقامةُ​​ الدعائم عملٌ​​ متواصلٌ​​ للحفاظِ​​ على البرج،​​ ومنعِ​​ مزيدِ​​ من الانحراف.

 

C:\Users\ibrah\Pictures\Pictures from camera\P1070537.JPG

 

يرتبطُ البرجُ​​ "بغاليليو" العالم الإيطالي​​ المشهور، الذي ظلمتْه الكنيسة ذاتَ​​ يوم، لتقصيرِها عن إدراكِ​​ ما​​ اكتشفه​​ وآمنَ به​​ بلا تردد،​​ بأنّ​​ الأرضَ​​ كرويَّةٌ وهيَ​​ تدور!!​​ عاقبتْه​​ سلطاتُ​​ الكنيسةِ الكاثوليكية​​ بسببِ​​ قناعاتِه،​​ التي​​ تناقضُ​​ أفكارَ​​ الكتابِ​​ المقدّس،​​ وتأخرتْ كثيراً حتّى​​ قدَّمتِ​​ اعتذارَها​​ في ثمانينات القرنِ​​ المنصرم، واعتبرته​​ رائداً بطلاً​​ في​​ الأبحاثِ​​ الشجاعة،​​ التي​​ اكتشفها​​ وآمنَ​​ بها​​ وأعلنَها، وأقيمَ​​ له تمثالٌ في الفاتيكان، تكفيراً عن خطأ الكنيسة معه.

 

لكي يبرهنَ​​ "غاليليو" التساوي في​​ سرعة​​ السقوطِ​​ الحر، لكتلٍ مختلفةِ الأوزان والأحجام​​ من نقطة ارتفاعٍ واحدة، خلافاً لما اعتقده أرسطو ذات يوم؟​​ قامَ​​ بإلقاءِ​​ كتلتين مختلفتين من​​ أعلى​​ البرج، لتصل الكتلتان​​ معاً إلى​​ الأرض.​​ ولو​​ أهمل عامل مقاومة الهواء،​​ معتمداً فقط على معادلة التسارع في قانون​​ "نيوتن الثاني"​​ (ثابت​​ ج​​ =​​ 10متر/ثانية2)؟​​ لأتى اختبارُه خالياً​​ من كلِّ​​ "عيب".​​ فالكتلَ المختلفة​​ المعنيّة​​ تسقطُ في آنٍ معاً في الفراغ؛​​ هي​​ ألمعادلةُ​​ الخالصة.​​ 

 

تركنا​​ مدينة​​ "بيزا"​​ منتصفَ​​ النهار، في طريقنا إلى"مُوْنتِيْكَاتِيْني"، منتجعٌ​​ سياحيٌ​​ يحجُّ إليه​​ المتعبون​​ من​​ الدنيا،​​ ويقومُ​​ على قمةٍ​​ جبليةٍ​​ عندَ​​ حدودِ​​ السماء.​​ هناك تناولنا طعامَ​​ الغداء،​​ وتذكّرتُ​​ الخبزَ​​ الخالي من الملح الذي تناولناه​​ بالأمس​​ في​​ فلورنسا..​​ فأخبرتني​​ نجاة​​ قبل أن​​ تستجيبَ​​ لطلباتنا​​ نادلةُ​​ المطعم.​​ شابة​​ تلوحُ فِتْنَتُها​​ في​​ عينيها الملونتين،​​ وشعرها​​ المتهدل تحت قبعة النادلات.​​ تنسف أعصابَك بعطرها​​ المستفز المثير؛​​ يتسرَّبُ​​ كالمخدر​​ إلى خلاياك،​​ تدنو​​ منك​​ كثيرا​​ وتنحني​​ برأسها​​ توشوشك،​​ وهي​​ تهمس في أذنك وتسألك:​​ ماذا​​ ستأكل​​ يا سيدي..؟

 

قالت​​ نجاة​​ إن​​ نبلاء من​​ "بيزا"؛​​ تعرضوا للإهانة في​​ ساحة قديمة​​ في "فلورنسا"،​​ تلك هي البداية​​ الأخرى​​ لحرب "داحس والغبراء ونزاعات العرب​​ المستمرة..​​ لا ترتاح أو تتوقف".

 

وكانت​​ حصيلة​​ قرار​​ أعلى سلطة في​​ بيزا.​​ ألدولة البحرية​​ التي تسيطر​​ على​​ جزيرة سردينيا في الغرب من إيطاليا،​​ أن​​ تحتكر وتمنع​​ ملحاً​​ تساوي​​ صناعته​​ ذهباً،​​ فاتخذتِ السلطة في المدينة​​ قراراً​​ حاسما،​​ يقضي​​ بمنع الملح​​ عن فلورنسا،​​ عقاباً لها على​​ الحماقة التي ارتكبتها.

 

فلورنسا​​ المدينة​​ التاريخية​​ الشهيرة، التي تعيش ترفا ورخاء بلا حدود،​​ لا تتحملُ​​ التقتير أو​​ الحرمان.​​ هكذا​​ أمسى​​ الملحُ​​ السلعة النادرة​​ وسبب النزاع الكبير القائم،​​ الذي​​ قصم​​ ظهرَ​​ البعير.​​ ومنذ ذلك​​ الزمن​​ المغرق​​ في التاريخ​​ والأزمة​​ قائمة​​ لم تنتهِ​​ بعد!​​ فقد اعتاد​​ الفلورنسيون​​ على خبزٍ خالٍ من الملح،​​ فإن كان الأمر​​ خلافاً​​ لذلك..؟​​ ونادراً ما يحدث..​​ فهم ينبهونك للأمر..!​​ وكأن القاعدة​​ المُسَلّم بها..؟​​ أن يكون الخبز​​ خالياً​​ دائما​​ من​​ الملح..!​​ ​​ 

 

 

C:\Users\ibrah\Pictures\Pictures from camera\P1070580.JPG

 

في اليوم الرابع والأخير من رحلتنا،​​ استطلعنا من الكاميرا​​ الصور التي التقطناها​​ ونحن نتثاءب​​ من النعاس.​​ وانطلقنا​​ في اليوم التالي​​ رجوعاً​​ من الجنوب​​ إلى سالو،​​ نحو البحيرة في الشمال، وزوجة ابني رفيقتي في رحلتي،​​ أصابتها حساسية​​ ​​ شديدة​​ جراء دخولنا​​ المشاتل في​​ "پيستويا"،​​ لنبتاعَ​​ منها بذوراً​​ وأغراساً​​ للحديقة. واجهتْ​​ مشقةً​​ بالغة وتحاملتْ​​ على نفسِها،​​ فأنا​​ لا أملكُ​​ رخصة للقيادة​​ لأساعدها..​​ لكنَّها​​ أكملتِ​​ الطريق​​ بإرادة طيبة.. وعزمٍ​​ لا يهون.​​ ​​ 

 

عدنا محمَّلَيْنِ​​ بالأغراس والشتول، وأفخر​​ أنواع​​ الزيت​​ والزيتون​​ التوسكانيِّ​​ الرفيع، إضافة إلى كيس من اللوز؛​​ وفيضٍ من الهدايا​​ للجميع، وأصنافٍ​​ من الحلوى​​ أعَدَّها لنا أيوب،​​ مع​​ كثير من​​ خبز​​ لا يخلو من الملح..​​ أصرَّتْ​​ نجاة أن نحملها​​ كلها​​ في طريق عودتنا.

 

وبعد.. فالرحمة لروح نجاة.​​ "صَلاةُ الله خالِقِنا حَنُوطٌ​​ *​​ على الوَجْهِ المُكَفَّنِ بالجَمَال".​​ غَدَرتهاَ​​ المنيّة​​ باكرا​​ على​​ منعطف​​ الغربة.​​ ستطول​​ وحشتها​​ حتى نلتقي..​​ ونكتشف سرّ​​ الموت هناك.​​ 

 

​​ أما​​ الشّتول​​ التي اشتريناها​​ فيبست،​​ لأن أحدا لم​​ يساعدني على غرسها​​ في أرضٍ​​ بكر​​ لم تعرفِ​​ المحراث​​ من قبل،​​ فأصابتْ باطنَ​​ كفي​​ اليمنى​​ كدمة​​ آلمتني،​​ بفعل​​ هشاشتي وخشونة​​ عصا المعول. لكنني عوَّضت​​ ما فاتني​​ في نومٍ عميق.​​ لتبقى​​ تلك​​ الأيام عصية على النسيان.​​ 

 

 

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

لك اللحمات ولنا العظمات

Read Next

حمار الحاج مرشد

4 Comments

  • نصٌ عصيّ على النسيان
    بمستوى ما نفتقر إليه من أدب الرحلات؟
    هذا النصّ الأثير أستاذي الأريب..
    يختصر ألف نصّ.. وألف صورة وموقف ومشهد
    في مدّة لا تتجاوز أربعة أيام فقط؟

    رسمت لنا أماكن متنوعة وعديدة بقلمك الرشيق
    تعجز عن محاكاتها ريشة أبرع الرسّامين
    ووثّقت لقطات نادرة بالكلمة والصورة
    تعجز عنها الكاميرات الخارقة ومهرة المصورين

    رحم الله السّيدة النبيلة.. نجاة.
    ورحم الله كلّ من عرف قيمة الخبز والملح
    ولو أتى الوفاء للخبز والملح في سياق مختلف؟

    وتبقى قيمة اللحظات الباذخة
    تكمن في حضورها الخالد
    وفي كرم أصحابها وأريحيتهم

    لها.. ولنا المغفرة…. وتعازي الحارة لأسرتها
    وأصدقائها ومحبيها وبلدتها، ولروحها السّلام

  • الأستاذ العزيز إبراهيم يوسف

    الكتابة تأمل، نسيم من الآمال والأحلام، حروف ونقاط تنساب من الروح إلى الروح.
    وهذه المحبة الخالصة، والعناية الملحوظة في كتابة النص وإخراجه، والصور والذكريات العزيزة كهدية خالصة من الروح إلى الروح، حتما ستصل لروح “السيدة نجاة” حيث تكون.

    كل السلام لروحها الطاهرة ولروح كل مخلوق غادر الحياة بهدوء وسلام.

  • ليت هذه الرحلات استمرت وتواصلت
    لتأخذنا معك في كل مرة
    ونرى بعينيك عالما جميلا
    مختلفا عن عالمنا المغموس
    بالفساد والظلم والقتل
    وانتهاك حقوق وحرمة الانسان

    عالم الحب والرقي والترفع والإخاء
    و تقديس الذات في الفن والجمال
    ليت هذه الرحلة الساحرة.. التي رافقناها
    لا تتوقف عند حدود الزمن في الريف فقط

    يطول بعمرك لتمتعنا وتغمر نفوسنا
    بأحلى ما عندك من نصوص وحكايات

    رحم الله الست نجاة.. وغفر الله للأحياء والأموات

  • الصديقة العزيزة… شهربان معدي

    حتى العيون الصفية والقلوب التقيّة؟
    ليست بريئة دوما
    وهي ترى أصدقاءها بانحياز..!!

    خالص مودتي وإعجابي يا صديقتي
    بصفاء ذهنك وطهارة قلبك
    وعذوبة هذا الخطاب الآسر النبيل

    ما يقوله القلب يعجز عن قوله اللسان

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *