ومضات نقدية مختصرة عن رواية دفاتر الوراق

 

ومضات نقدية​​ مختصرة

عن رواية دفاتر الوراق

 

الحائزة على جائزة

البوكر العربية لعام 2021

للكاتب جلال برجس

 

إعداد مهند النابلسي

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\دفاتر الوراق.jpg

الملفت في​​ رواية​​ دفاتر الوراق،​​ تراص الأحداث الروائية​​ الطويلة​​ المتداخلة​​ المترهلة، مع كم كبير من المبالغات والميلودراما​​ غير​​ الواقعية.​​ كمقتل​​ العائلة على الطريق الصحراوي​​ بحادث مفاجىء،​​ وبقاء البنت الكبيرة وحيدة.​​ ناهيك عن ضعف وصفي واضح وسلق لغوي معلب،​​ وخلل في المبررات​​ والحوافز والدوافع لدى​​ إبراهيم​​ بطل الرواية،​​ بالإضافة​​ إلى​​ الفبركة والنقل والاسقاط والتقمص،​​ والضعف الواضح في التقنيات الروائية.

 

تعج​​ الرواية​​ بقصص المعاناة والفقر المدقع،​​ كفقدان المال والانتحار و"القمل مجازا"، وهي​​ تغوص​​ في​​ حكايات​​ فاشلة لخيبة البطل واحباطه المتواصل،​​ وتتعرض لقصص بنات الملجأ​​ المشردات فاقدات الهوية بطريقة​​ اتهامية​​ فاضحة،​​ ​​ دون أن​​ تتعمق​​ إلا نادرا​​ في​​ الوصف الدقيق المعبر، ويبدو البطل​​ إبراهيم​​ دَعيّا وعبثيا الى​​ أقصى الحدود.

 

تنتشر​​ من الرواية روائح​​ النكد والشكوى والهزيمة، حيث يحشر الكاتب قصصا​​ ومقولات وشخصياتِ​​ كتّابٍ​​ وروائيين​​ مشهورين​​ مثل "باسترناك ونجيب محفوظ وهيجو ودستويفسكي" بلا مبرر حكائي أحيانا:​​ فعندما​​ يتحدث عن​​ عيب​​ "أحدب نوتردام" الذي مثله​​ بقطعة قماش،​​ أخفاها داخل قميصه من جهة الظهر، ثم ازالها بعد انتهاء السطو على المصرف،​​ ومن المؤكد أن كاميرات المصرف​​ سترصد شكله وهو هارب بالنقود مع الحدبة.

 

ما سيسهل القبض عليه لاحقا ولن يفيده أبدا هذا التخفي الساذج،​​ فدقة​​ الإعداد​​ لازمة​​ للروائي​​ ​​ حتى يقنع القارىء بروايته ويصدقها.​​ وهو لا يتجاهل كذلك "كونديرا وشاعر مجري مجهول" وغيرهم ضمن السياق، وأحيانا بطريقة قسرية مفتعلة، وكأنه يلجأ​​ بسطحية​​ لينقذ​​ دوافع​​ البطل​​ المغوار من مصيره العبثي/العدمي المحتوم!

كما​​ لو​​ أنها تشبه "عريضة شكوى" طويلة قدمت في مخفر شرطة​​ وما من​​ أحد يهتم بقراءتها، تحفل بالشرح البيروقراطي​​ المطول​​ بلا تطوير للشخصيات،​​ لتسير بنفس النمط​​ بلا بارقة​​ أمل وفسحة​​ للتنفس حتى النهاية!

فقد​​ تعرض الكاتب بالتفصيل تقريبا لقصة دراسته وتعليمه في موسكو، التي انتهت بفشله في دراسة الطب وتحوله للفلسفة،​​ كبديل​​ مرفوض​​ من​​ أسرته وسكان قريته الفقراء البائسين، ممن يعلقون عليه آمالهم، ثم​​ تفاصيل عشقه لشابة​​ روسية حسناء، توفيت لاحقا​​ بشكل تراجيدي،​​ بحادث سيارة​​ ما​​ أدى لانهياره النفسي.

​​ بالاستناد​​ لذلك​​ كله​​ وبعد​​ عودته​​ إلى​​ قريته​​ وخيبة​​ أمل الجميع​​ به،​​ وأولهم والده الطيب الصبور​​ لفشله​​ كيف لن​​ يغدو طبيبا،​​ يداوي​​ أمراض سكان قريته المعدومين، ويرفع الضيم والمعاناة الواقعة عليهم وعلى مستقبله.

ولكي أكون منصفا​​ بالحد الأدنى،​​ ينبغي التنويه بأن الرواية تحملك على القراءة حتى نهايتها، وهذه تسجل كميزة لموهبة الكاتب السردية،​​ وبراعته التلقائية في خلط الحكايا ورواية القصص،​​ والتنفيس عن الاحتقان داخل النفوس​​ دون أن​​ تخلو من الواقعية، وفي الحقيقة​​ كنت قد اخترت عنوانا​​ سجعيا مختلفا​​ للمقالة يعبر باختصار عن مجريات أحداثها: "مغامرات الدفتري الدوارة،​​ في الأماكن المختارة،​​ بكل​​ العناية​​ مع التقمصات البراقة​​ والجدارة.

 

وهكذا​​ أرجو أن​​ أكون قد نجحت​​ ولو​​ في​​ بعض الحدود​​ بكشف حيثيات،​​ وخفايا الرواية الكبيرة المعقدة​​ وما يحيط بها​​ في مقالة مختصرة،​​ توخيت​​ الصدق فيها،​​ وأن تكون دقيقة وعادلة​​ متوازنة، كما​​ انني​​ أعتقد بان أي نقد​​ أدبي لا يشمل​​ على نحو​​ متوازن،​​ عناصر​​ صياغة​​ اللغة والوصف والحبكة ورسم ملامح الشخصيات​​ بدقة​​ والبيئة الحاضنة،​​ كما البعد النفسي والتاريخي والجغرافي، فإنه يعتبر نقدا قاصرا سطحيا لا يفي بغرض​​ النقد المطلوب.​​ 

 

وهكذا​​ فإن الرواية تتحدث ضمنا عن "بيوغرافي شخصي"،​​ يعود​​ لبؤس حياة الكاتب​​ ونشأته وفقر قريته وخيبته الدراسية والعاطفية في موسكو، وبدا​​ لي في​​ المحصلة وكأنه يسطو على حياة الوراق المناضل المسكين، وقصص اليتيمات البائسات في الملجأ،​​ بتبجح​​ فضائحي غير مبرر ومبالغ فيه أيضا،​​ ليعود دوما ويكرر كل هذه الحكايا والقصص،​​ بشكل دائري يسبب​​ دوخة​​ المهتم المتابع للعمل،​​ وقد اقتبس​​ وتقمص​​ شخصيات كل من "البؤساء لفكتور هيجو،​​ واللص والكلاب لمحفوظ ود. زيفاكو لباسترناك"،​​ وغيرهم مما يبعث على السأم​​ من​​ كثرة التكرار، في​​ محاولة بائسة للتقليد والاسقاط​​ غير​​ المبرر​​ غالبا، ثم يدفع بكل هذا المزيج​​ "المتنافر" في​​ خلاط​​ الكوكتيل​​ الجاهز​​ للروائي"، لكي يرمي بين أيدينا​​ رواية​​ مصنّعة،​​ غير متجانسة​​ يعوزها​​ المغزى والنكهة والأمل​​ أيضا.

 

لكن​​ ينبغي​​ للحق​​ التنويه وتقدير مصداقية الكاتب،​​ في وصف حالات بؤس قريته ومظالم التفاوت الطبقي.​​ كما نجح​​ بواقعية في طرح تفاصيل سينمائية لحالات سرقة البنوك​​ والبيوت الثرية في عمان، محاولا​​ إسقاط محاولاته اللصوصية على شخصية "روبن هود"​​ كلص شريف معروف روائيا، دون أن يعلمنا​​ كيفية توزيع الأموال المسروقة للفقراء كما ادعى، بل​​ ويبدو من​​ تسلسل​​ السياق وكأنه قد احتفظ​​ بالأموال​​ لنفسه ​​ حصريا.​​ 

 

ويبقى​​ النص الروائي شيقا​​ يثير الفضول لاكماله​​ ولو لم يخلُ من​​ غرابة​​ كبيرة.​​ وإن​​ كان يفتقر إلى​​ ميزة​​ جينية​​ تحتسب لصالح​​ ​​ الكتاب المحترفين​​ الموهوبين.​​ في​​ المحصلة​​ ليست الرواية​​ النهائية سيئة تماما، ولو​​ ​​ بدت​​ مشتتة ومفتعلة​​ أحيانا،​​ تحفل بالاقتباس والتقمص والتحاسد والتظاهر والتثاقف،​​ دون​​ أن​​ أنفي احتواءها،​​ على فصول صادقة ومعبرة لحالات​​ الفقر والسرقة والعزلة والتوحد والبؤس..​​ وربما​​ كانت​​ تستحق الجائزة​​ عندما تكون​​ الروايات الاخرى المرشحة​​ بجانبها،​​ ضعيفة وهزيلة​​ وتفتقد​​ للإبداع والتجديد والتشويق والتقنية السردية،​​ والتميز والبعد الروائي المتماسك،​​ والرؤيا الجديدة مع بارقة​​ أمل​​ تبقى​​ ضرورية،​​ "وربما كان​​ ​​ بعض​​ الواقع​​ لا أعرفه".

 

ولا أعرف​​ حقيقة​​ ماذا​​ يجب على لجنة الجائزة الموقرة،​​ أن تجيب​​ عليه بصراحة​​ وعمق وشفافية،​​ معلنة​​ وضع الأمور في نصابها،​​ وحسم الجدل وتفاوت الأراء النقدية المتجددة، (علما بأن ذلك حق مطلوب ومحبذ وممارسة عالمية​​ ​​ تخضع لها​​ الجوائز الاخرى المعتمدة وليس خيارا مزاجيا خاصا).​​ مهما يكن الأمر، أرجو أنني وفقت في نقدي​​ وتقديري للأمور​​ ولو في بعض الحدود، والله دائما من وراء القصد المجرد​​ الذي يحاول أن يكون منصفا.​​ 

 

للمشاركة

alnabulsi.muhannad

Read Previous

الصراع الطبقي

Read Next

انطلاق عروض أسبوع الفيلم الياباني في عمان

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *