أم طفل التوحد.. أين حقها في رحلة كفاحها؟!

نضال أم في حرب صامتة وبقلب ينتفض بالإيمان

تقاوم المرأة مشاعرها كافة، تتبرأ من أحاسيس قد تكون رأس مالها في الحياة!، تُهشم عشقها في غمضة عين إن واجهت زوجها بخيانته، فلا تكفيها مبررات اللغة من أجل البقاء على ودها في علاقة لفظت أنفاسها الأخيرة على فراش الزوجية، قد تُقاتل أحب البشر إلى قلبها إن وضعوها موضع اتهام أو ظلم كالشمس في وضح النهار، ولكن لا رهان على ما استقر بقلبها تجاه أطفالها، هم في مكانة خاصة تحفظهم دقات قلبها من قسوة البشر وتدفئهم روحها من سقيع الدنيا الزائلة، وثمة مثال حي وإثبات على صدق هذا، حالة تتفرد فيها الأم بفطرتها وغريزتها وتؤكد للبشرية بأن العطاء ينبع من قلبها وحده، أصل الإنسانية.

"التوحد".. نعمة ينكرها البشر وتحتضنها الأم

لا شك أن أطفال اليوم يواجهون الكثير من العراقيل التي تقف أمامهم في رحلة التربية، الخروج من رحم السلام إلى أرض المعركة​​ "الحياة الدنيا"، فقد تجد منهم يُعاني من الخجل الإجتماعي الذي نشأ عليه وأصبح بمثابة نقطة سوداء في حياته، ومنهم على النقيض؛ فتكوين العلاقات الإجتماعية هو هدفه الأول، وكما نقول​​ "يعرفه طوب الأرض"، وغيرهم من يشب على سلوكيات خاطئة اكتسبها من خلال الصداقات السامة في مرحلته المدرسية؛ فلا يجد منها سوى الخراب حينما يسرع به قطار العُمر ليدهسه هو أول الضحايا!، ولكن.. ثمة فئة من أطفالنا اليوم تتناغم مع المجتمع بطريقتها الخاصة، تتغلغل بجوف الحياة رُغمًا عنها، تُطالب بحقها في العيش الكريم وإن سلبته نظرات البشر منها، فهل يتقبلهم المجتمع كما يليق بهم؟

"أطفال التوحد".. أو بمفهومه العلمي "اضطراب طيف التوحد"

لن أخفيكم سرًا، تعتبر هذه الموهبة المُغلفة بالألم هي الأكثر انتشارًا في عالمنا العربي طبقًا للإحصائيات والشواهد، اليوم إن أردنا حصر أعداد أطفالنا أصحاب هذه المهارة فلن نقف على رقم محدد؛ فالأعداد تتزايد يومًا بعد يوم، في وقتنا الحاضر لا غرابة حيال أمرهم من فرط الحالات التي تخرج لنا وحتى التي تختبئ خلف نوافذ أحلامها؛ مخافة مواجهة العالم الذي لن يتركهم يتنسموا الحياة في سلام، دون إيذاء مخلوق، ولكن حديثنا اليوم لن ينصب عليهم بشكل دقيق وتفصيلي، هم الذين أجدهم​​ "فرسان الطفولة"​​ وبحق، ولكن عن الجندي المجهول، صاحب​​ البصمة الحقيقية في حياتهم، ولكنه اكتفى أن يكون خلف الكواليس وأن تُسلط الأضواء على أحبابهم الصغار، فأي عطاء هذا!

الأم..​​ من حملت ووضعت رضيعها وأخذت ترسم أحلامها في تنشئته كما يجب أن يكون، تُخرجه للحياة مُقاتلًا لا يرهب بطشها أو تنهش تقلباتها سلامه، حُلم طفولتها الوردي يتحقق بولادته، لتضع لمساتها الساحرة في تربيته وهي لا تعلم أنها تستكمل تربية القيم والمبادئ بداخلها أيضًا، تدرك معنى الحب غير المشروط بوجوده، تتشارك معه البداية في كل شيء كما لو كانت هي من تكتشف الكون على يده الصغيرة وبقلبه البرئ، تقع في قبضة الحزن إن وقع هو في حفرة الألم ولو للحظات، وإن كان مجرد ألم​​ "تبديل أسنانه"​​ كما هو حال الصغار في سنوات حياتهم الأولى، فماذا عنها إن تلقت الصفعة الكبرى والألم العظيم؟

"هيحتاج شوية وقت"..

قد تكون كلمات بسيطة لا معنى لها أمامك الآن، ولكنها تُمثل الزمن الذي يتعمد قتلها مع كل ثانية تمر من خلاله!، حينما يُلقي عليها الطبيب خبر الانتظار والمحاولة من جديد، يصبح العُمر لا قيمة له بعد أن كان جنة أبدية!

يتبدل حال الأم بين ليلة وضحاها، وبعد أن وضعت الخطة المثالية لطفلها: مدارس على أعلى مستوى​​ "إنترناشيونال"، سفر إلى كل بلاد الله، تحمل مسؤولية خوض الحياة ومعاركها​​ "وحده"، تتساقط الأحلام على رأسها كما أوراق الخريف الذابلة!؛ لتُعيد حساباتها وتُمزق أحلامها المنطقية كأي أم وكأنها لم تكن!، الآن لا مجال للأحلام، بروتوكول العلاج ينتظر تنفيذها له كي لا يتطور أمر طفلها لكارثة لا تُغتفر.

يصبح كل شيء بحساب، اللعب بحساب، الأكل بنظام، مشاهدة التلفاز بالورقة والقلم، سلوكيات الطفل بـ"المسطرة"، يصبح أسلوب حياة صغيرها هو مسؤوليتها الخاصة، وإن شاركها الزوج والأسرة كاملةً في حمل أعباء المرحلة، تتحكم هي بمجريات الأمور لكي يطمئن قلبها بأن وليدها على ما يرام، لكي تصل به إلى بر الأمان وتضع رأسها على وسادتها هادئة مستقرة، تصبح رفيقته في رحلة العودة إلى الحياة، وهو مازال على قيدها!، ولكنها الحياة التي طالما أرادت رؤيتها واقعًا ملموسًا، تتخبط بين مشاعر الرفض والنكران بما حدث لصغيرها​​ -خاصةً وإن كان أول أطفالها-​​ ومشاعر الامتنان بما لديها من نعمة سماوية تأخذ بيدها إلى قصور النعيم الدائم، تتشبث بالأمل في إيجاد طفلها بالصورة الطبيعية كما تجد أطفال الأصدقاء والمعارف، ولكن​​ سرعان ما يقتنصها اليأس والنفور في بحوره العميقة لتغرقها أمواج الحزن دون أن ينتشلها من قذف في قلبها كلمات الرأفة المعسولة، في الشدائد تظهر المعادن، وهو ما تحقق بالفعل مع أول تحدي لها.

تبدأ مرحلة جديدة كُليًا، معارك وصراعات داخلية لا يشعر بها سوى الأم وحدها، أحاديث خفية تفضحها نظرات الأمهات ممن لم يخضن نضالها: "ابنها عامل كده ليه؟!"،​​ "تلاقيها مش بتنام بسببه"،​​ "بصي بيعمل إيه!"، والمطلوب أن تتعامل بكل رقة وذوق بينما بركان غضبها يثور ويكاد يقتلع قلبها من الضلوع!، ينفطر حُلمها إن صادفت طفلًا يلهو ويرن صوته العالم، يتعلم ويسرد ما تعلمه وكأنها أعظم انتصاراته، يخرج برفقة الأصدقاء وقتما يشاء دون أن تُحدد مواعيده بوصفة طبية، وهي أمام تحدي الثبات تُبارز بقوة لم تكن في الحُسبان، لم تعهدها من قبل، فهي في النهاية أنثى ضعيفة لا تقوى على تحمل صواعق القدر، وهُنا تؤكد في مشهد مهيب أن عاطفة الأم تغلب الصعاب، تتسلح في معركتها بالإيمان بقدرة الله، أن ينزل السلامة على قطعة قلبها المتحركة أمامها على الأرض، وإن أشعل صدرها أنين لا يعلمه إلا خالقها.

حق الأم.. واجب إنساني

المؤسف أن يكون المشهد الإعلامي في يومنا هذا ينحصر في تفصيل​​ "التوحد"​​ وأثره على الطفل فقط، متغافًلا عن دور الأم في رحلة الخروج من عنق الزجاجة، وعن الحالة النفسية التي تكابدها الأم بدايةً من معرفتها بطبيعة الأمر، وحتى كتابة مشهد النهاية بسعادة العائلة.

تنتظر الأم أن تتلقى نظرة احتواء أكثر من نظرات الشفقة بحالها، قد تكون في أمس الحاجة إلى أذن صاغية لتُخرج ما في روحها من آلام مكبوتة تتلهف صافرة البداية والإذن بالبكاء دون رادع، أن يصبح حقها في تفريغ طاقة الغضب والضيق التي تعبث بها جراء الحدث الفاصل في حياتها كزوجة وأم، فألم البدن لا يُذكر أمام اعتصار القلب على فلذة الكبد.

الوعي بماهية هذا الاضطراب أمر ضروري لا نقاش فيه، لا يحتمل المزاح أو أخذه كالهراء، ولكني أجد أن الأمر يستحق أن نتوسع فيه، أن تخرج الأفواه المغلقة لتتحدث عن حاجاتها المستترة، أن تُفتح الأبواب أمام أسرة كل طفل يُحارب قبل الأوان!، ثمة أبطال تقاوم مشاعر دفينة ولحظات يدفعها الابن/ة من العُمر، عُمر الأسرة.

فماذا عن تكريم الأم في هذه الحالة؟، تستحق وقفة شكر واعتزاز بما قدمته لطفلها، تحتاج إلى داعم نفسي ينثر الرضا والسلام على روحها مع كل خطوة تخطو بها في مواجهة الدنيا، تحتاج إلى توجية وإشادة حقيقية، تحتاج اهتمام أكبر من قِبل وسائل الإعلام، ونحتاج إلى دراية أعمق بأمرها حتى يتسنى لنا مد يد العون لها، نحتاج إلى الوعي بها أكثر لكي تتمكن من محاربة المجتمع ونظراته القاتمة حيالها، أن تخرج من معركتها منتصرة عالية الرأس شامخة بقلب طفلها الذي لم يشوبه فساد وفتن الأرض.

لا تنهزمي عزيزتي، أم طفل موهوب ومميز، أنتِ على قمة الإنسانية والأمومة والعطاء، لست وحدك، الحياة تنتظر ابتسامتك كي تتوهج.

 

للمشاركة

Nora_Mohammad

كاتبة مصرية

Read Previous

يا طيِّبَ القلب

Read Next

في عيدها العالمي.. هل يكفي المرأة يوم لتقدير فضلها؟!

9 Comments

  • الأمّ من نِعَمِ الله على الخلق، فالمرأة الأم من طبعها الصبر والوفاء والتضحية والشجاعة، بعض ما فطرها الله عليه من القِيَم.

    ولعلّ آدم كان من أتعس المخلوقات؟ حينما لم يجد لنفسه أما تحضنه وصدرا يرضعه. خالص مودتي .. وتمنياتي.

    • صدقت أستاذي.. أتفق معك كثيرًا، ثمة نعم أرسلها الله لنا على هيئة بشر، والأم نعمة عظيمة لن يشعر بقيمتها إلا من ذاق مرارة فقدها.
      تحياتي وتقديري لك ولقلمك الراقي.

  • أستاذة نورا.. سعيد حقا بوفادتك ووجودك معنا معززة مكرمة وعالية التقدير، بالنيابة وعلى لسان الجميع. شكرا للإضاءة الوافية على هذه الزاوية المظلمة من حياة الأم والطفل، والشكر موصول بالأستاذ إبراهيم يوسف مشاركا وصديقا كريما للجميع.

    • أستاذي المبدع المتألق بحروفه الراقية.. أتشرف بوجودي معكم في هذا المنبر الثقافي الجميل، الشكر لك على تعليقك الرائع الذي أسعدني كثيرًا، يكفيني أن أتنسم كلماتك العطرة، وأتمنى لك كل التوفيق والسداد في كتاباتك وفي تقدم وازدهار دائم إن شاء الله..
      أشكرك على ترحيبك الطيب.. وللأستاذ إبراهيم يوسف كل التحية على كلماته الغالية.

  • وصلتني للتو رسالة من الأرض المحتلة تقول صاحبتها:

    “من خلال النص والرد على التعقيبين أدركت أن الكاتبة
    تتفاعل بكفاءة عالية وتعرف جيدا ما تريد

    لو أنفقوا أموال الحروب على ابتكار الأدوية والأمصال؟
    أو على تأصيل الحبوب لأطعموا جياع الأرض وساعدوا
    أم يامين لكي تتخطى متاعبها وربما عاد ابنها سليما معافًى

    هذه مخلوقة شجاعة.. خاطري معها وتستحق لقب البطلة
    أما كاتبة النص نورا..؟ فلو لم تكن أما لما نجحت وتفوقت
    في االتعبير وإظهار مشاعر لا يمكن أن تحسنها إلاّ الأمهات

    نص جميل ومؤثر فعلا .. شكرا للكاتبة المميزة”
    وهذه هديتي للأم وطفلها في الفيديو الملحق بالنص

    “وعمرك وعمر العطر ما كفّوا السّني
    وشو الدني يا ابني وشو طعم الدني؟
    انْ ما هبّجت وجّي…. بإيديك الحرير”

    https://www.youtube.com/watch?v=TUpOH4MRR8Q

    • أعجز عن الرد أستاذي.. كلماتك اشعلت سعادتي فلم أجد من الحروف ما يليق بأثرها على قلبي!
      الحق أن التجربة قريبة مني، ولكن ألمها لامس روحي، لم أعش تجربة الأمومة بعد، ولكن صدق التجربة وضعتني في مأزقٍ كبير! بين واقعي الذي لم تدب به خطوات الطفولة، وما عاصرته مع بطلة القصة الحقيقية التي تواجه تفاصيل المعركة وحدها.
      وجدت أن تجربتها تحتاج إلى نظرة، مجرد نظرة، قد تمنحها حقها المنسي، وهنا تتضح قيمة الإنسانية عند التلاحم بألم الآخرين.
      أظن أنني نجحت بشهادتك الغالية، تكفيني، تسعدني، تدعمني لاخراج أفكاري عن حدود عقلي، ولكن لن تكفيك كلمات الشكر أستاذي.
      وهل نجد أرقى من صوت السيدة فيروز العذب لنتهادى به 🥰

    • تحياتي وتقديري لصاحبة الرسالة.. حروفها الجميلة أفاضت على قلبي معاني السعادة والفرح، كل المحبة لها أينما كانت، ولأرضها الطيبة السلام، قُبلة احترام وتقدير وامتنان على رأسها العفيف.
      أتمنى أن أكون دومًا عند حسن الظن.. كل الشكر والمودة لصاحبة الرسالة الجميلة 🥰

  • التعامل مع طفل التوحد يحتاج إلى الصبر والتفاني والإدراك والثقافة والمسؤولية خصوصا من قبل الأم…وهذا ليس بالأمر الهين.
    كل التقدير والاحترام لجميع الأمهات، ولك أستاذة نورا كل المودة والاحترام على هذه اللفتة الطيبة.

    • مساء الخير أ/ إيناس ❤️
      تحياتي وتقديري لكِ على التعليق الجميل والكلمات الطيبة..
      صدقتِ، رحلة طفل التوحد الذي أراه.. طفل صاحب موهبة خاصة زرعها الخالق فيه دون تدخل مخلوق. هي رحلة مؤلمة بكل تأكيد، لكنها مُلهمة في النهاية، وأم طفل التوحد صاحبة الإلهام للبشرية كلها، يتحقق على يدها معنى الصمود والاصرار والتحدي في حربها الصامتة مع المجتمع، لتواجه العالم بعقلٍ يدرك وضع صغيرها كي تصل به بسلام إلى بر الأمان .. صحيح وأتفق معكِ.
      لها تحية تتجدد كما يتجدد الأمل داخلها مع إشراقة كل صباح.
      أشكرك أستاذتي الكريمة الغالية، لكِ مني كل الاحترام، أسعدني تعليقكِ كثيرًا ❤️

Leave a Reply to إيناس ثابت Cancel reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *