يا طيِّبَ القلب

 

يا طيِّبَ القلب

إبراهيم يوسف

تعقيبا على نافذة الحرية

 

ماذا..؟ لو انّ العنكبوتَ

الذي قتلتَه في غرفتك،

كان يظنُّ نفسَه طوالَ حياتِه​​ 

أنَّك رفيقُه في السّكن؟!

دوستويفسكي

Attendre soi – Chemins de traverse de la philosophie


​​ 

إلى شهربان​​ معدي من الجليل

 

هذه المرة يا صديقتي بلا ألقاب. خالية تماما إلاّ من مودة الملح والعيش، قمحاً حَوْرانيّاً وخبزاً قفاراً حلالاً ولو بلا إدام. أما وقد استمعتُ للقصة مرتين بأذن صاغية وانتباه تام، فقد استوقفتني بالمباشر نبرة الإلقاء​​ ومتانة اللغة، تعتلي جناح طير​​ ينساب في لطف النسيم، يحلق عالياً رشيقا كمياه البردوني، تنحدر عبر الوادي من أعذب وأصفى الينابيع، ولئن صادفت حصاة في الطريق؟

​​ 

لا تتعثّرُ بها أو تتشاجر معها؛ بل تلتفُّ حولها بِرِقَّةِ ووداعةِ ريحٍ ​​ تلمسُ زهرَ الربيع؛ فتتخطاها وتودعها من بعيد، ثم تمضي إلى غايتها في أمان؛ والمياه تجري وتدندن للحصاة لحن الوداع.​​ 

 

ينبغي أيضا أن أشهد بالحق، وأنوه بمكتبة المنارة والقائمين على إدارتها، التي تؤدي خدمات جلّى لمن فقدوا نعمة البصر، وهنا ينبغي للإنصاف أن أخصّ بالذكر الأستاذة المتألقة.. نهى الأسرج، التي يصحُّ فيها قول علي بدر الدين:​​ "يا سِحْرُ خَيِّمْ على الإلقاءْ وانْسَكِبِ".​​ الأستاذة التي تولّت قراءة القصة بطلاوة ملفتة حقاً.. وكفاءة عالية​​ خالية من التعثر والهفوات والأخطاء

 

وأما مضمون نافذة الحرية القصة التي تناولتِها؟ فتكاد تلخّصُ المعنى الوجودي والصراع القائم منذ​​ بدايات الخلق، وعمر الأزل من أجل المكاسب والنفوذ. لأن هناك دائما من البشر من هو أسوأ من المتنبي الباغي المكابر لقوله: والظلمُ من شِيَم النفوس* فإن تجدْ ذا عفةٍ فلعلّةٍ لا يظلمُ.

 

استخدم *إن ليقينه من ندرة الصلاح في نفوس البشر، أولئك من يتوقون مثله للحصة​​ الأوفر. يقيمون الدنيا ويدقون طبول الحرب على البلدان المستضعَفة، كلما تقلصت ثرواتهم ومواردهم.

 

المنافسة الحرة ورأس المال، ثم السياسة واستبداد الاقتصاد، فالأمن السياسي والأمن القومي؛ هذه المفردات تفعل فعلها اليوم. أضيفي إليها نجاسة العولمة، والتحكم بالقوى الفاعلة والخوف ​​ والجهل والجوع. ثم عجز الأمم المتحدة أو المنحلّة المتواطئة أغلب الأحيان، فالوقوع في براثن​​ الفتن والحروب، ليأتي المنتصر ويفرض السلام. لكنه لم يكن يوما سلام الهنود الحمر الشجعان.

 

ما يجري بين روسيا وأوكرانيا مؤلم ومقيت؛ لكن الحرب والسلام مفردتان​​ متلازمتان متنافرتان، لم تسبق الأولى الثانية، ولولا الأولى لما كانت الثانية. هكذا صنّفها تولستوي منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، فما من أحد يذكر السلام قبل الحرب، لأن السلام لا يأتي إلاّ ​​ نتيجة الحرب.​​ 

 

​​ لكن عندما تكون الحرب نقيض السلام؟ فأنا مع من ينشدون السلام، ويمقتون الحروب بإصرار. والحرب ولو أنها مقيتة تحمل معها الموت، إلاّ أن النهضة من وجوه ومفاعيل ما بعد الحرب. وهكذا فالمراهنة لا ينبغي أن تكون إلاّ على السلام، لأنه خلاص البشرية من ويلات الحروب.​​ 

 

​​ أما الحرب دفاعا عن النفس والأرض والأوطان، يفرضها عليك الآخرون بالباطل، والتزوير في الجغرافيا والتاريخ، أو "الحق المزأبق" فهي مشروعة من الله والبشر بكل الأعراف والمقاييس.

 

ولبنان اليوم قبل نكبة المرفأ وبعدها، مع الوباء والتلوث وجنون الأسعار والاحتكار، في حال أسوأ من الحرب. تواطأ عليه أولاد الحرام الأوغاد المرتكبون الفاسدون الحيتان في الداخل.

 

ومن الخارج أمعن أصحاب المصالح، في تدمير اقتصاده وَعَرَّوهُ حتى العظام. من يصدق أن الفيتامين ارتفع سعره 600 مرة أكثر! وبات ثمن العلبة يساوي الحد الأدنى للأجر في الشهر.

 

الاقتصاد الذي تأرجح طويلا بين الموارد والاختلاس، بين الواقع والتمني حتى انفجر الطبل وتفرّق العشاق، فنال من مقومات الوطن، لفساد "معظم"​​ الساسة الحكام، وانتشار العوز فقتلوا في القلب الرجاء للكفاية من الطعام. فأين منا لحظة صفاء! وقد انحصرت همومنا في الاقتصاد.

 

تبلغوا وبلغوا العالمَ كلّه سيداتي سادتي، أن القلة ومن​​ بجانبنهم من أشراف هذا الوطن الذبيح المستباح لن يستسلموا أو يركعوا. هكذا علمتنا أرضنا إرثنا من أهلنا وإرث أبنائنا وأحفادنا من بعدنا. وهكذا علمنا الفلاحون من غير المتلاعبين بالبورصة وأسواق الذهب والصيرفة والمال.​​ 

 

الفلاحون حرّاس الأرض المثقلة بالخيرات من أهلي وأهلك، كما علمنا فؤاد سليمان في درب القمر، والمُلْهِمون على مساحة النكبة والمهجر، أن نرفض فلا نركع ولا نبيع نفوسنا وأرضنا وفيها قبور أهلنا وأحبتنا. أرضنا منها إكسير حياتنا ووجودونا وما يجري في عروقنا من دماء.

 

"كانت الأرض سخية في أيامهم، وقلوبهم سخية بمحبة الأرض، وأيديهم لا تعرف غير العطاء. هم يعطون واللّه يملأ بطن الأرض بالخيرات ويعطيهم"؛ فلم لنا يبق​​ لنا​​ إلاّ القحط والمعول المهجور.

 

قلت بعض ما خاطري ولم أكتف، لكنني سأبات ليلتي مطمئن النفس هادىء البال موفور الخاطر والرجاء.. ولا ينبغي أن أنسى ما كنت بصدده، من​​ تحية الأديب الأستاذ وهيب نديم وهبة.

 

أحييه بأرفع مراتب المودة والتقدير، ومن دواعي غبطتي واعتزازي أن أنشر له في الروافد ما يرغب. تمنياتي له بالعافية والخير والعطاء المتواصل، والحصاد الوفير؛ والتفوق نثرا وشعرا.

 

وكل الشكر والمودة والاعتزاز بصداقة شهربان ابنة​​ الجليل التي أطرتني وأخجلتني بطيب منبتها، وأجدني محرجا بما تقوله عني. فلتحييِّ معي​​ الدكتور منير موسى وترحب به، فنتآخى ونتواصل ونتحدث من جديد. "يا طيِّبَ القلبِ يا قلبي* تُحَمِّلُني هَمَّ الأحبَّةِ إن غابوا وإن حضروا".

 

* إن؛ تُستخدم إذا كان الشرط مشكوكا في​​ حدوثه... أو هو نادر الحدوث

بينما إذا؟ فتستعمل في الغالب إذا كان الشرط محققا.... أو يرجى تحقيقه

 

 

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

صوفي علة كياني ووجودي

Read Next

أم طفل التوحد.. أين حقها في رحلة كفاحها؟!

9 Comments

  • والله يا استاذ ابراهيم، يعجز القلم عن تقويم ما خط قلمك..لرقي فكرك وروعة النص ..ادامك الله .
    مودتي

  • يخليلياك خيِّ ماهر.. شكرا على مرورك الكريم.. كن دوما بخير.

  • تصحيح في الفقرة الرابعة من نهاية النص على النحو التالي: كانت الأرض سخية في أيامهم.. إلخ.. حتى: (فلم يبق لنا ) إلاّ القحط والمعول المهجور.

  • تحية فلسطينية كرملية تليق بكم .
    شكرا بعمق البحر واتساع السماء…
    صديقنا وأديبنا وأستاذنا إبراهيم يوسف…
    شكرا لحضوركَ الجميل في حياتي
    وأتمنى حقا التواصل معكم محبتي
    واحترامي ومودتي لكم
    وهيب نديم وهبة

  • جميل أ/إبراهيم.. تألقت حروفك ومعانيها ❤️
    كل التحية والتقدير لك ❤️

  • لم يسعدني الحظ بالاستماع إلى ” نافذة الحرية”، إلا أنني أعرف جيدا أن شهربان كاتبة واقعية، تختار بعناية ماتكتبه وتقدمه لنا. شهربان تستحق العناية والاهتمام وتستحق أنت يا معلمي كل المحبة والاحترام.

  • عزيزتي إيناس

    فاتك يا عزيزتي أن شهربان الصديقة المدركة بعناية للشأن الكتابي، لم يفتها أن تلفت عناية الجميع إلى رابط شبّاك الحرية السماعي بإيقاع الصوت والحرب، في بداية تعقيبها على نص الأديب وهيب نديم وهبة.

    الرابط الذي أعدته مشكورة مكتبة المنارة، الدار الغنية التي تؤدي خدمات جلى لسائر الكتاب وقراء السماع، وهو ما أشرت إليه في سياق يا طيب القلب؛ النص موضوع التعليق. خالص المودة.. مساء سعيدا.. كوني بخير.

    https://arabcast.org/?mod=book&ID=5013

  • الأستاذ الأديب وهيب نديم وهبة

    أهلا وسهلا بوفادتك إلى الروافد أستاذي الكريم.. أهلا بفلسطين وأرض فلسطين، وأبناء فلسطين البررة، وفي فلسطين لا يعيش إلا المخلصون البررة. أنتم أهلنا وفي عمق وجداننا وقلوبنا.. وعلى رؤوسنا من فوق.

    جزيل الشكر للأستاذة الصديقة شهربان معدي بنت الجليل الكريم. أنا مدين لها عندما شرفتني وعرفتني إليك.

  • أديبنا العزيز ابراهيم يوسف
    أسعد الله صباحكَ بالخير والإبداع
    لقد سقطت الدمعة من رقة كلماتكَ
    وأنتَ المبدع المكلل بجماليات اللغة
    تحياتي لكم.
    وهيب نديم وهبة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *