نموذجان رائدان لكتابة الرواية الابداعية “ماركيز ورشدي” يقدمان نصوصا غرائبية مدهشة

نموذجان رائدان لكتابة الرواية الابداعية

“ماركيز ورشدي” يقدمان نصوصا غرائبية مدهشة

*مهند النابلسي

 

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\ماركيز.png

 

الفن في كتابة الرواية تلك التي تعلق بالذهن وتشد القارىء وتذهله، حتى يغوص في عمقها​​ مستمتعا ومتأملا ومتعلما ومستفيدا، من السخرية الآخاذة المتنوعة والوصفية العميقة الشاملة؛ وجرأة صريحة كاشفة بلا “حدود من موانع وتابوات وتحفظات وتقديس وتمجيد وشيطنة ونصائح ووصفات جاهزة، واستسهال فسلق وفبركات "وبوزات" مصطنعة…وكذلك بلا نرجسية وفوقية وتكرار واجترار وملل”: (نسبة الاشتقاق حوالي 80 الى 20%).

 

*كتابة انطباعية جريئة معبرة تحفل بتعليقات كاتب المقالة: مهند النابلسي…

 

*يقول ماركيز: الرواية لا تكتب، بل تعاش بكل تفاصيلها! ويقول بارغاس يوسا: في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فإنه يقرر إن كان سيصبح كاتبا جيدا أم كاتبا رديئا؟!

 

فالأدب فن موجه لتحسين العالم، وليس لتحسين الحسابات المصرفية… وكذلك ليس لقنص الجوائز والاستعراض والتباهي والنخبوية ومشاعر العظمة والإقصاء!

 

الكوكا كولا مثلا هي البضاعة الأولى التي نفدت بعد فرض الحصار الاقتصادي على كوبا، حيث اخترعت​​ أول الأمر كدواء وليس كشراب مرطب، وكانت تستخرج من أوراق نبات الكولا الذي يستخرج منه أيضا الكوكايين…علما بأن تناولها مع الأسبيرين يمنحها مفعول المخدرات، وأنها قد تذيب الأسنان خلال ثمانٍ وأربعين ساعة فقط، ومع ذلك فالكل يعشقها لمذاقها الخاص!

 

 

*تشبه قراءة الصحف​​ تناول زجاجة كاملة من زيت الخروع على الريق… أما صحفنا اليومية البائسة بمعظمها فتشعر أن قائد اوكسترا واحد يدير الجوقة الموسيقية بنفس النمط والايقاع.

 

لقد كنت مؤمنا على الدوام بأن الحب “الحقيقي” قادرعلى انقاذ الجنس البشري من الدمار.

 

وهذا هو أفدح المظالم، فالآخر هو الذي ينعم بالشهرة، وأنا الذي “يتخوزق” في الحياة عذرا على التعبير الوضيع، ويكون كاتبا هامشيا يرقص في العتمة ولا يبالي به أحد! والكلام لكاتب المقالة.

 

الحياة تتجمل بمثل هذه الأسرار أكثر مما قد يخطر في بال أحدنا: فعشية اغتيال يوليوس قيصر، رأت زوجته “كالبورينا” وهي مذعورة، أن جميع نوافذ البيت تفتح معا على مداها، دون أن تكون هناك رياح ودون أن يثير فتحها أية ضجة! وقد قال الامبرطور يوما: “أنا الذي أحكم كل هؤلاء الرجال، تحكمني عصافير ورعود”.

 

*في فيلم “حياة أرتسبالدو دي لاكروز” للأسباني لويس بونويل، يقع حادث رهيب حين تدخل راهبة من باب مصعد، ولا يكون هناك مصعد، فتهوي الى قاع الهوة وهي تطلق صرخة رعب، ثم هناك قصة عن مصعد يسحق ميكانيكيين كانا يحاولان إصلاح خلل وهما في القاع، وأعرف ابنة زوجين حبست لمدة ساعتين في مصعد مظلم وهي في الثانية عشرة من عمرها، وأكثر القصص​​ رعبا تتمثل بالخادمة التي حبست في المصعد لانقطاع الكهرباء لثلاثة أشهر، ليجدوا بقاياها متفسخة في المصعد! بناء على خبرتي الطويلة في صناعة الاسمنت. (كمهندس وكاتب لهذه المقالة).

 

وقد سمعت أو خبرت ثلاث قصص مرعبة مماثلة: عن عامل تقطع لأشلاء بفعل انكباس باب حديدي​​ ضخم عليه قبل أن يتم اختراع نظام آمان لاغلاق أبواب المصاعد، ومشغل طاحونة كرات ضخمة وجدت بقايا من شعره فقط، عندما كان في قيلولته بعيدا عن الشمس، داخل الطاحونة الباردة دون أن ينتبه له أحد، ثم أخيرا وليس آخرا موظف تعبئة تم هرس رأسه بالكامل، من قبل شاحنة اسمنت​​ ضخمة محملة، وهي​​ تعود للخلف دون أن ينتبه لها المسكين، وقد تم التعرف عليه من هويته الشخصية فقط التي كانت بجيب قميصه: وهكذا فكلنا وليس ماركيز ​​ فحسب، من يملك مخزونا من قصص الموت المرعبة، وقد ننساها مع مرور الوقت، كما يذكر “كاتب المقالة” ​​ وهو نفسه كان معرضا لحادث سير مميت في صحراء الربع الخالي عندما تجاوز شاحنة طويلة، (في غسق يوم ما قبل حوالي ثلاثة عقود)، دون أن ينتبه لكونها قادمة، وقد نجا باعجوبة وبرعاية ربانية خاصة حينها!

 

ثم الرعب يتمثل "لبونويل" عندما يظهر قائد الطائرة وهو يبتسم بقميص أكمام قصيرة، وكأنه يحذرهم من حادث مرعب قادم. *لقد قام المنطاد الشهير “هيندبيرغ” بمئة وأربع وأربعين رحلة عبر الأطلسي، ولم يكن فيه سوى عيب واحد يتمثل بكونه منفوخا بالأوكسجين، القابل للاشتعال والذي تسبب في كارثته الشهيرة… وفي اعتقادي لو كان ماركيز حيا يرزق لتحدث بالتأكيد عن “الانفجار النووي” الذي دمر ميناء بيروت وجزءا من المدينة الساحلية الجميلة بفعل تخزين كميات هائلة من “نترات الأمونيا” بإهمال غير(مقصود)؟؟ وتسبب بدمار رهيب غير مسبوق وعدد كبير من القتلى والمفقودين والجرحى، ويا حبذا لو استلهم هذا الحادث الرهيب بعض الكتاب المبدعين الأوفياء، وتطرقوا لها بابداعاتهم الروائية القادمة…

 

*في نفس الولايات المتحدة توجد جمعية مدنية تدعى “مايل هايل كلوب”، يقبل في عضويتها جميع من أثبتوا أنهم مارسوا الحب على ارتفاع يتجاوز الميل، كما توجد رحلة جوية شهيرة اسمها “رد ايزي اكسبرس” لا يسمح فيها للركاب​​ بالنوم، لذا يصلون لوجهاتهم وعيونهم حمراء تتقد من السهر، ولا توجد فيها رقابة، وأسعارها منخفضة جدا، حيث يحمل المسافرون طعامهم وشرابهم ومخدراتهم وموسيقاهم وحاجاتهم الشخصية، ولا أحد يسأل هناك عمن تكون…وفي تلك الرحلات من لوس انجلوس الى ميامي أو نيويورك، تكون فيها الأضواء داخل الطائرة مطفأة تماما، وحيث يكون الجنس هو أبسط ما يحدث داخلها، كما قد يحدث أحيانا في القطارات العابرة للحدود بصمت وتباه بلا ضجيج!

 

*لقد كنت على قناعة دوما، بأن لا وجود في الطبيعة لما هو “أجمل من امرأة جميلة” (ومن عندي طفل جميل وحيوان صغير​​ جميل وطبيعة جميلة آخاذة وفراشات ونحل وورود وأزهار …الخ) ومع ذلك، فالرواية الوحيدة التي تمنيت لو أكون كاتبها هي “بيت الجميلات النائمات” لكاوباتا الياباني، وتروي قصة نزل غريب في ضواحي​​ طوكيو، حيث يدفع المسنون البرجوازيون المهووسون مبالغ طائلة، ليستمتعوا بالحب​​ الأخير الرومانسي بطريقة مبتكرة: فهم يقضون الليل في تأمل أجمل فتيات المدينة، وهن يرقدن عاريات ومخدرات في السرير الرحب ذاته، وهم لا يستطيعون ايقاظهن ولا حتى لمسهن، لأن السعادة تكمن في الحلم بجوارهن بهدوء وشغف وتأمل…وأتسائل بدوري ماذا عن أصوات الشخير والروائح الكريهة التي قد تنبعث من فتحات الجسم إن حدثت: وقد ذكرتني هذه القصة بقصة “النسونجي العربي الثري” الذي دفع لممثلة هوليودية شهيرة شابة، مبلغا طائلا من المال مقابل الجلوس معه بكافيه لنصف ساعة فقط، وكانت المفاجئة بتبرع هذه الفنانة الجميلة “الحساسة” بكامل المبلغ لجمعية خيرية غربية وكأنها توصل له رسالة “ذات مغزى”… وأكيد فهذه الشخصية العربية الثرية “السفيهة”، لم تسمع أبدا عن فقراء العرب المعدومين، وقد انزعجت حقا كذلك من شخصية عربية ثرية اخرى زارت لندن مؤخرا، ودخلت لمتجر ساعات روليكس أو اوميغا السويسرية واشترت كل​​ محتويات المتجر من الساعات، وخرجت متبجحة متباهية سعيدة!

 

*لقد أصدر الإنجليز الحريصون في السنوات الأولى لاختراع السيارة، قانونا خاصا يفرض بموجبه على كل سائق أن يرسل أمامه شخصا راجلا، يحمل راية حمراء ويرن جرسا، لكي يتاح للعابرين الوقت الكافي للابتعاد عن السيارة!

 

*هي قصة السيارة (ذاتها) التي تلتقط في الطريق امراة متوحدة، ما تلبث أن تختفي من مقعدها أثناء الرحلة: وليس مستغربا أن يلتقي بها أحد المسافرين يوما ما في مكان محنتها، تشير له برعب أن يتوقف وتمنحه الفرصة لكي تحذره:

 

​​ حذار فهذا المنعطف خطر!: وهذا ما يحدث​​ لي، حيث أقضي أحيانا النهار كله في اللف والدوران، دون أن يوقفني أحد، لأن الجميع يرون راكبا وهميا في المقعد الذي الى جانبي، وعندما رويت هذه القصة للمخرج لويس بونويل، بدت له طبيعية جدا وقال لي “إنها بداية موفقة لفيلم سينمائي”…وقد قرأت (ككاتب) في الصحف المحلية​​ القديمة في ستينات القرن الفائت قصة مشابهة عن مهاجرعائد لوطنه للاستقرار، وقد أوقف سيارته ليلا ليقل أمرأة جميلة من منتصف الطريق القروي النائي، ثم ليراها بالمرآة تتحول تدريجيا لغولة شنيعة حيث أنزلها فورا، ثم شاهدها تتوعده منذرة وهي ترمي سيارته بالحجارة، مما​​ استدعى عودته فورا ونهائيا إلى بلد الهجرة​​ وقد تملكه الرعب الشديد وأقسم مرارا على صحة قصته التي مرت بدون أن يلتفت لها أحد بجدية حينها!

 

*وأكثر القصص رعبا قصة الرجل الذي التقى مصادفة، في أحد الأسواق بامرأة جميلة، وقد حاول إغواءها واتفق مع أبويها، وفرضت شرطا غريبا بالامتناع عن أية علاقة جنسية، إلا في بعض المناسبات القليلة التي تكون فيها مستعدة لذلك، ثم اكتشف بالسر ان زوجته تهرب أثناء النوم، لتلتقي بعشيق سري، فتبعها وقطع رأس ذلك العشيق بالسيف، ثم انجب منها لاحقا ثلاثة أبناء، ووجد في ليلة ما أبناءه الثلاثة مقطوعي​​ الرؤوس بنفس السيف، وقد اختفت الزوجة هذه في ظروف غامضة…

 

*ثم هناك قصة مماثلة مرعبة: قصة المرأة التي لا تأكل لكي تهرب من البيت ليلا، حيث لا تأكل الا حبات من الأرز، تلتقطها حبة حبة بواسطة دبوس، ثم تهرب ليلا الى المقبرة لتأكل جثثا طازجة، وهناك قصة الصياد الذي​​ يطلب من جار له رصاصا لشبكته، ويعده بان يعطيه مقابل ذلك أول سمكة يصطادها، ويفي بوعده، وحين تقوم زوجة الجار بتنظيفها، تجد في بطنها ماسة براقة بحجم حبة البندق!

*وفي البحث عن ينبوع الخلود، فقد ارتاد ذلك الملاح الأسطوري منطقة في شمال المكسيك، ومكث هناك حوالي ثمانية أعوام في حملة غريبة أكل أفرادها بعضهم بعضا، ولم يعد سوى خمسة أشخاص فقط من الثمانمئة الذين أبحروا معه في البداية (أعتقد ان هناك مبالغة بذلك).

 

ثم كانت تباع خلال العهد الاستعماري دجاجات تربى في أراضي الطمي النهري، وقد عثر لاحقا في قوانصها على حبيبات عديدة من الذهب الخالص: هكذا مع كل هذا التجميع العجائبي لمثل هذه القصص الغريبة فلا نستغرب لما يسمى ماركيز باستاذ الواقعية السحرية بلا منافس، لأن دمج هذه الحواديت اللافتة داخل نسيج رواياته وقصصه بشكل محكم عضوي شيق ومقنع، حيث عجز غيره وأخفق عن مثل هذه المقاربة​​ الإبداعية الفريدة.

 

فضول السينما يعيش في داخلي: فقد بدأت مثل جميع أطفال ذلك الزمان بالمطالبة بأخذي الى ما وراء الشاشة لأرى كيف هي أحشاء ذلك الاختراع…وحين اكتشفت السر أخيرا، بدأت تعذبني فكرة اعتبار السينما وسيلة تعبيرأكثر كمالا من الأدب، فلم يمكني ذلك اليقين من النوم الهادىء لوقت طويل…ويتذكر (مهند النابلسي) في فيلم​​ وثائقي ليوسف شاهين كيف عبر فلاح مصري “متخلف” عن كراهيته الشديدة للسينما باعتبارها “حرام”، واقترب من الكاميرا في منطقة الأهرامات وكسرها بوحشية قاهرة وكأنه يثأر منها!

 

*ثم أدركت أثناء ذلك العبور للصحراء أنه ليس هناك من عمل للتحرر الفردي أروع من جلوسي وراء آلة كاتبة لاختلاق ذلك العالم ” الواقعي السحري الشيق الحافل بالتفاصيل والذكريات” (ويقصد هنا روايته الشهيرة “مئة عام من العزلة”)!

*لذلك سألت غراهام غرين عن حقيقة حادثة الروليت الروسي، التي يرويها في مذكراته: حيث روى أنه لعب فعلا في ذلك الحين لعبة الروليت الروسي، بمسدس قديم لأخيه الأكبر في أربع مناسبات مختلفة: وعندما سأله فيدل كاسترو كم طلقة كانت تتسع طاحونة ذلك المسدس، فأجاب “ست طلقات” ثم أغمض كاسترو عينيه وراح يهمس “استنادا الى حساب الاحتمالات، يجب أن​​ تكون ميتا 128 مرة، وربما هناك مبالغة وخطأ بهذه الحسبة: وقد شاهدت بفيديو واقعي كيف يفجر اثنان من لاعبي القمار المدمنين رأسيهما بالروليت الروسي، ليفوز الثالث الناجي بكومة كبيرة من الأوراق النقدية، كما تعرضت السينما مرارا لذلك بقصد الاثارة.

 

*كان لويس بونويل​​ يخاف من فقدانه لذاكرته في بواكير شيخوخته: إن ارادتنا غير قادرة على منع الموت، لكنها قد تكون قادرة على سد الطريق أمام الشيخوخة (وهذا مجرد تنظير بحت فلا أحد قادر على إيقاف زحف الشيخوخة وخاصة مع ارتفاع معدل زيادة الأعمار عالميا).

 

*لقد سمعت أن “ألدوس هكسلي”​​ قد قرأ، صفحة صفحة، نحو ثلاثين مجلدا من الانسكيلوبيديا البريطانية (حيث ربما لا يوجد أحد قادر على إعادة هذه التجربة حاليا مع انتشار الانترنت وسرعة التصفح).

 ​​​​ 

*يوليوس قيصر الذي سلمه معلم البلاغة الاغريقية ورقة مكتوبة نبهه بوجوب قراءتها فورا، وكانت تتضمن تفاصيل المؤامرة، لكنه لم يقرأها أبدا، ثم لقي مصرعه بثلاث وعشرين طعنة! *اللغة العالمية المنتشرة هي “الانجليزية الركيكة”، والأرض هي جحيم الكواكب الأخرى، والفراشة الزاهية الروحية تعلمت الطيران بعد مضي 380 مليون عام لا أقل، ثم ربما ستكون الصراصير الكريهة هي الأثر​​ المتبقى الوحيد مما كانته الحياة والحضارة يوما!

 

هكذا أتحفنا ماركيز برحلته العجائبية الشيقة المتنوعة في هذه الفقرات المعبرة، متحدثا عن جملة مواضيع بصراحة وفضول: كالكوكا كولا وأمريكا واغتيال القيصر، وكوارث المصاعد ومصير المنطاد الكارثي، ورحلات الجو الجنسية الرخيصة…وصولا لرواية بيت الجميلات النائمات وقصص الجنيات في السيارات، وآكلي لحوم البشر والدجاجات التي تبيض ذهبا… كما تحدث عن سحر السينما والروليت الروسي وجملة مواضيع أخرى غريبة وشيقة ومثيرة للدهشة والتأمل…وكلها أمثلة واقعية ذات طابع غرائبي تدخل ربما في نسيج​​ رواياته بتلقائية دون “تصنع وفبركة” كما نقرأ بملل في بعض الروايات أحيانا.

 

*ثانيا:

*فقرات من رواية “تنهيدة المغربي الأخيرة” للكاتب “البريطاني-الهندي” سلمان رشدي تعبر عن واقعية وصفية صادمة ومستفزة قلما نشهدها في الكتابة الروائية الدارجة:

 

*وصف معبر للمعاناة​​ داخل سجن بومباي المركزي (ربما يتماهى كثيرا مع حالات سجوننا العربية المهملة البائسة وسجون الاحتلال الصهيوني العنصري المنسية): سجن انفرادي، الحرارة فيه زادت من رائحة العفن، فهناك…البعوض، الصراصير والقش، وبرك من السوائل في كل مكان الظلمة. قدماي الحافيتان تسحقانها وأنا أمشي. لكن حين وقفت ساكنا، تسلقت ساقي الى الأعلى. فانحنيت مرعوبا أبعدها بيدي لأشعر بأن شعري يحتك بجدار القفص الأسود. الصراصير تجمعت حول رأسي ثم نزلت على طول ظهري. شعرت بها تدب على بطني ثم تنزل الى عانتي، هنا بدأت حركة “نخع” مثل دمية متحركة، ضاربا​​ نفسي، صارخا فقد بدأ شيء ما يجتاحني- شيء كالدنس (وأتذكر ككاتب في طفولتي الغابرة مشهد حمام بخار عتيق تراثي في نابلس موشوم على جدرانه بكم هائل من الصراصير، المتأهبة الواقفة بشواربها الكريهة المستفزة حيث لا أحد من الحضور يبالي بوجودها)!

وفي فقرة أخرى بالغة الدلالة:

 

"…لكن أنت بلا رحمة، لا تستنزف قواك. ودع جسمه ينسلخ أمامك: عندما يصبح شكلا بلا حدود، روحا بلا جدران، حينئذ ستشد يداك على عنقه وتضغطان، تضغطان الى أن يندفع الهواء خارجا من فتحات جسمه المتاحة كلها فتضغط لتخرج روحه مع​​ “ضراطه”…والآن ها هو رمق وحيد بقي لديه: فقاعة راعشة من أمل…ثم وصولا الى الخاتمة الجامعة:

 

…وها أنا أجلس هنا، في آخر ضوء، بين أشجار الزيتون هذه، أنظر عبر الوادي، إلى كل بعيد، كل من ينتصب هناك، رمزا لمجد المغاربة، عليه رائعة انتصاراتهم وآخرحصونهم، الحمراء، قلعة أوروبا أخت قلعة دلهي وأغرا…بعد زمن طويل من سقوط غرناطة، كشاهد على حب ضائع لكنه الأعذب، شاهد على الحب الذي يستمر بعد الهزيمة، بعد الإبادة، بعد اليأس…إنني أشهدها وهي تختفي مع ضوء الغسق، فيحمل اختفاؤها الدموع الى عيني"!

 

في الختام أتمنى نشر هذه المقالة وعدم تجاهلها لصراحة طرحها ومقارناتها الإبداعية مع نماذج ركيكة وربما سخيفة من سيل الرواية العربي الراهن المتدفق!

 

مراجع المقالة:

 

*”كيف تكتب الرواية” لجابرييل غارسيا ماركيز” (2016)/ترجمة صالح علماني/ورق للنشر والتوزيع.

*”تنهيدة المغربي الأخيرة” لسلمان رشدي/ترجمة عبد الكريم ناصيف/دار تكوين للتاليف والترجمة والنشر/2016

 

*مهند النابلسي:

*ناقد وباحث أدبي/كاتب وناقد سينمائي/عضو رابطة الكتاب واتحاد كتاب الأنترنت العرب/وفائز بدرع "ديوان العرب" للعام 2016 ككاتب نقدي متميز.

 

للمشاركة

alnabulsi.muhannad

Read Previous

الفيلم الأسباني اليوم المثالي

Read Next

صوفي علة كياني ووجودي

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *