هَوْنِ الْجَنِّي.. وْهَوْنِ النّارْ

 

"هَوْنِ​​ الْجَنِّي..​​ وْهَوْنِ​​ النّارْ"

 

​​ إبراهيم يوسف​​ - لبنان

 

هَوْنِ​​ الْجَنِّي وْهَوْنِ​​ النَّارْ

​​ مدّ​​ بْسَاطَكْ...​​ يا مُخْتَارْ

 

من أحاديث شمس الجبل

 

Lequel est le plus chaud, le paradis ou l'enfer ?

 

هذه الأرجوزة​​ الشعبية​​ القصيرة

​​ كان يرددها

​​ أبناء​​ بلدتي​​ للأطفال​​ الصغار

 

يضعونهم في قماش مستطيل

كثوب أو غطاء

يمسكه اثنان​​ كلٌ​​ من طرف​​ 

وأحيانا يمسكان ​​ الطفل​​ 

مباشرة​​ من يديه ورجليه

 

يرفعانه قليلا عن الأرض

ويؤرجحانه​​ يمينا ويسارا​​ باليدين

في الفراغ​​ أو​​ داخل​​ القماش

ليشعر بمتعة الأرجوحة​​ 

فيتوقف عن البكاء

​​ بسبب ألم أو مغص في الأمعاء

فتبدو البسمة على وجهه وعينيه​​ 

 

ولا أدري​​ حقيقة​​ من أين وكيف

​​ وعلام صيغت الأرجوزة

وما علاقة

​​ المختار بالطفل والبساط والبكاء

إلاّ إذا كان المطلوب​​ من المختار

​​ أن يمد​​ بساطه

في انتظار الضيوف أو الزوار

 

والمخاتيرعندنا​​ كما تعرف

لا يتقاضون رواتبهم​​ من السلطة​​ 

​​ بل​​ من الناس..​​ يسترزقون​​ 

كرجال الدين المتفرغين للعبادات

أجرهم على الله ومعاشهم من الناس

 

مهما يكن من​​ أمر فإن فيضا من الخواطر​​ 

دهمتني معظم ساعات الليل

ومنها ما يتسم بالهواجس​​ والأحلام

وآثرت​​ عند الضحى​​ بعد​​ النوم العميق ​​ 

من آثار​​ السهر​​ ​​ أن أتوجه​​ بخواطري

​​ للرد على​​ أخي​​ وسندي

​​ وصديقي​​ الدكتور أحمد شبيب دياب

 

 

أنت أخي وحبيبي​​ ووجه​​ الخير والصداقة المترفعة الحقة.​​ وبعد..​​ لعل موسى​​ شعيب​​ يا صديقي​​ طيّب الله ثراه، عاش​​ ورطة​​ الألم​​ بعد النكبة في فلسطين، وحربنا الأهلية التي شهدها بأدق​​ التفاصيل،​​ وكان​​ وَقْدَة​​ السنديان​​ في​​ نيرانها​​ وهو​​ يحترق​​ ويقول:​​ "لمن أكتب، وحولي تقرض الجرذان ما أكتب"!؟​​ ​​ ولم​​ يعد​​ للجرذان أن تقرض الشعر أو تأكله​​ ونحن نعيش​​ تكنولوجيا​​ العصر..​​ ولا للماعز أن تأكل آياتٍ بيّناتٍ من القرآن الكريم، في بيت أمّ المؤمنين.​​ 

 

​​ أنا​​ النّكِرة​​ أمام موسى شعيب،​​ وسواه من المبدعين في الجنوب المتاخم​​ لفلسطين،​​ يقتصر​​ إحساسي​​ على​​ الفرح بمن حولي، والدكتور​​ أحمد يشغل حيزا من قلبي الصغير؛​​ مثلي،​​ لا يتسع لأحشر​​ فيه​​ إلا​​ ​​ قليلا من​​ أهلي​​ وأحبابي.

 

​​ كنت​​ مدعوا إلى زفتا​​ ذات يوم​​ إبان الحرب الأهلية​​ لحضور أمسية شعرية.​​ كان نجمها​​ الساطع​​ موسى شعيب،​​ ألقى يومئذ​​ قصيدته:​​ هيفا​​ تنتظر الباص​​ على​​ المفرق​​ في تل الزعتر، وكان كل ما فيه يغرد وهو يلقي القصيدة، أعقبها الوقوف وعاصفة من التصفيق.​​ والحرب الأهلية بكل مآسيها​​ وما نالته منا،​​ كانت شاهدة على من​​ عزفوا​​ على​​ الغيتار،​​ ورقصوا​​ فوق​​ جثث الضحايا​​ ​​ في مخيم​​ تل الزعتر.​​ من تخلى عن آدميته​​ سيكون أجرأ​​ ليرتكب الأبشع.​​ 

 

أسميك في السر

أرسم في الصمت عينيك

عيناك تاريخ كل الدموع

وأكتب قلبي رسالة حب

وأكتب وجهك

أكتب قلبي على وجهك ثم أمزقه

 

وهيفاء في الدار

في لوحة في الجدار

وهيفا تنحلّ في الكأس

تنساب لحناً لفيروز

ترحل في الخوف خلف الحدائق

وتبقى أصابعها و دخان الحرائق

 

عبرت هيفا حدود المدّ والجزر،

ارتمت ضاحكةً فوق طريق العين

هيفا ...

دخلت في الليل تبكي

أشرقت قنبلةً في شارع "الأسعد"

ماجت بين عطر الورد والبارود

وانحلّت على الجسر دموعا ...

 

تألمنا جميعا لهذا التورط​​ ​​ الذي تلاه​​ الرد​​ في​​ سقوط الدامور على​​ أيدي الحركة الوطنية​​ وكان يساندها الفلسطينيون. تلك​​ لحظات​​ من التخلي والغضب​​ والمرارة​​ وغياب​​ الإدراك؛ وعودة​​ أمراء الحرب ليكحمونا في سابقة فريدة النوع.

 

وفي​​ الزمن​​ المتفائل​​ ربما​​ أو​​ المنكود​​ لا فرق..​​ تجاوزنا​​ الفعل الشنيع​​ ​​ ليعاودنا​​ الأمراء​​ رغم​​ ​​ الإيلام​​ ووجع​​ التعبير.

​​ لتنتهي الانتخابات الأخيرة وتحمل معها بعض الوجوه الجديدة، وسط انقسامات عمودية في المواقف لا تطمئن.

 

وها​​ هي تكنولوجيا​​ الاتّصالات​​ على ما فيها من المنافع​​ والأضرار​​ تسهّل الأمور، فدعنا من التعقيد عندما لم​​ يعد للجرذان أن تقرض​​ الشعر أو تأكله،​​ ولا للماعز​​ أن​​ تقضم​​ بضع آياتٍ بيّناتٍ،​​ من القرآن الكريم في بيت أمّ المؤمنين.​​ 

 

والتشاؤم​​ الأدبي في ظل​​ تكنولوجيا العصر،​​ يشار​​ إليه بمئات آلآلاف ممن توافدوا،​​ إلى​​ إيطاليا​​ من​​ المسافرين​​ أو المقيمين​​ لحضور​​ أمسية شعرية​​ أقامها​​ مظفر النواب. هذا​​ التفاعل والحضور المباشر مع الشاعر لن يتكرر،​​ ولن يتكرر موسى شعيب​​ أو محمود درويش​​ ومظفر النواب،​​ في ظل​​ هذا​​ التبدل المريع​​ والانعطافة البالغة في التاريخ.​​ 

 

مظفر النواب​​ النبع فاض​​ من باطن الأرض​​ أم​​ الكائنات​​ والملهمين العباقرة، يروي لتسعين عاما​​ عطش​​ الحقول​​ ومساكب والورد​​ يستنفر​​ أريجه​​ ويحرض​​ أشواكه،​​ تتصدى​​ للأيدي الآثمة​​ ​​ في الدفاع​​ عن حقها في​​ الحياة.​​ 

 

​​ الشاعر​​ المنفي،​​ الذي​​ استوطنت​​ القدس​​ وفلسطين​​ وجدانه طيلة عمره،​​ مهما بلغت قدرة​​ التعريف به​​ تبقى​​ قاصرة​​ من ملامسة​​ تفرده​​ وثورته. الثورة التي​​ حفرت في قلبه حال​​ الواقع العربي،​​ ليرحل​​ منذ بعض الوقت​​ عن​​ القدس​​ وفلسطين​​ وفقراء العالم​​ مكفنا بمجده.​​ وقد​​ خسر المهزومون​​ نصيرا​​ لا نظير له على امتداد​​ الزمن​​ في تيه المنافي.​​ 

 

التكنولوجيا "المنكودة"​​ التي​​ ابتكرها الغرب،​​ نتيجة أبحاث وتضحيات​​ طويلة ومعاناة​​ قاسية.​​ الغرب​​ "الشافر" بتعبير​​ أهل​​ اليمن​​ وكان سعيدا ذات حين. هؤلاء "الشفار" الملحدون في الغرب مصيرهم جهنم وبئس المصير.​​ 

 

حاشى الله من الانتقام والتصميم على​​ التعذيب،​​ فدعنا من جهنم​​ يا صديقي​​ ونيران​​ السعير،​​ ومن​​ الجلود​​ المحروقة​​ تتجدد​​ من حين إلى حين.​​ وتعال بنا في زيارة سريعة إلى الفردوس​​ على الأرض،​​ وفيض من الحوريات​​ يحفِّزن المشاعر ويوقظن الهرمونات​​ والرغبات​​ الراكدة​​ في​​ الأعماق،​​ تأخذ منهن ما تريد،​​ وأنت تعرِّج معي إلى الأردن​​ والأوكرانيات في سوق​​ النخاسة​​ والرقيق، فرصة نادرة​​ لتحسين نسل​​ البدو​​ كما همست في أذني​​ كاتبة..​​ صديقة.​​ 

 

مع الأوكرانيات​​ العرق المؤصل النادر​​ والنسل البديع،​​ ستنسى​​ الجنان​​ والحور الحسان، وآنية الفضة والكريستال​​ والولدان​​ المخلّدون​​ أو خمرة​​ بكراً​​ مستوردة من أقبية كفريا​​ وكسارة،​​ "وباخوس"​​ مَنْ تَفَقَّه بالشعائر​​ "والدِّين".

 

Enfer Et Paradis T15 : Oh ! Great: Amazon.fr: Livres

 

ومن كسارة ودير المخلص وانتهاء بالمسيح وقانا​​ خمر​​ الجليل، حيث تتجاوز النشوة ​​ كل الحدود،​​ وسائر المعابد ​​ وطعم​​ الفردوس​​ وفيه​​ الخمر الأصيل،​​ وأنت​​ في حال من​​ الخلاص​​ والفضفضة عن النفوس​​ تواكبها التوبة والدموع.​​ أرأيت​​ يا صديقي​​ أحطّ​​ ​​ من انتهازية البشر​​ ؟ كيف يشهِّرون​​ بالأوكرانيات والسوريات​​ ويستغلون أوجاع المنكوبين؟

 

"هكذا صاغ المعرّي​​ صورة الجنة​​ في رسالة الغفران ودانتي​​ بالكوميديا الإلهية،​​ تبعا لما في أذهان​​ ومعتقدات​​ العامة​​ من الناس، لتتحول الجنة إلى ما يشبه شؤون كل الشهوات على الأرض، فتستباح فيها "المحرمات" على أنواعها، ويغدو التَّمنَّع عن إرضاء الشهوات في الدّنيا، إن هو إلاّ ضربٌ من الذكاء والحكمة والحيلة والدّهاء.

 

وما​​ تأخير​​ أو تأجيل​​ المتع​​ في الدنيا إلا لاستلحاقها، في الفردوس​​ فينالها​​ بالصبر​​ التوّابون​​ المؤمنون.​​ وربما يضيق سكان​​ النعيم​​ بمتعهم ورخائهم في السماء؟​​ ليُجْمِعوا على التظاهر والمطالبة بالعودة​​ إلى​​ فساد الأرض​​ من جديد".

 

تفجيرا​​ برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت،​​ سبقهما حفلة​​ كاڤيار في​​ الليلة الفائتة، عندما تهالك عليه​​ المفجِّران كما أظهرت التحقيقات، حيث قضيا ليلتهما الأخيرة على الأرض تمهيدا للقاء الحوريات في السماء.

 

​​ أما​​ حكاية​​ "هَوْنِ الجَنِّي..​​ وهَوْنِ النّار..​​ مدّ بساطك يا مختار"، التي​​ جرت​​ لنا​​ إبان الاجتياح الإسرائيلي​​ حينما نزحنا من العاصمة إلى الريف، فقد اقتطعتها من الموضوع، وذكرتها لك في التعقيب الأخير على بين الجنة والنار.​​ 

​​ 

 

 

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

مؤامرة تكنولوجية مدروسة.. والأنثى ضحيتها

Read Next

الوتريات الليليّة

2 Comments

  • الأستاذ الصديق العزيز إبراهيم يوسف

    تعودنا معك الانتقال من موضوع لآخر ببراعة وسلاسة وصدق في التعبير والمشاعر، كطير رشيق يتنقل بخفة ومهارة من غصن لآخر.

    دمت والدكتور أحمد بألف خير
    رزقكما الله سعادة وطمأنينة لا تفارق قلبيكما..

    مودتي

  • صديقي الغالي الأستاذ ابراهيم يوسف

    ما أطيب رائحة خبزك
    من تنور تفيض منه البركة
    ويسكنه الحنين

    ما ألطف مشاعرك الرقيقة
    تنساب ما بين الحروف
    فتواكب تدفّق الصور
    المتنقلة في المكان والزمان
    والنكهة والألوان

    أرفع لك القبعة حباً وتقديراً

Comments are closed.