رابِعَةْ

رابِعَةْ

إبراهيم يوسف - لبنان

"وَلَيْتَ الَّذي بَيْني وبَيْنَكَ عامِرٌ

وَبَيْني وَبَينَ العالَمِيْنَ خَرابُ"

Comment réparer un coeur brisé ? Les méthodes infaillibles !

"وْحِلْوِي بِإيْدَا كْتَابْ

سَلِّمْ على الحِلْوِي"

https://www.youtube.com/watch?v=atWUcrZt6N4

 

ما الذي يُفجِّرُ ينابيعَ الحنينِ إلى الماضي؟ هل هي رغبةٌ غلاّبة وخافقٌ مُعَذّب​​ للهُروب مِن قسوة الحاضر، أو لعنةِ الحظّ العاثر، للعيشِ في دِفءِ حبٍ قديم؟ أم هي حلاوة الماضي وعُذوبتُها لا تُنسى.. ولا تتكرر، وقد​​ نالت منها صروف الزمن، وثقافةُ العصر المتهاون المتردد المستكين!؟ هكذا كنتُ أستطلعُ أفكاري هذا المساء فتوَلاّني القلق، والحزن، والغموض، والحبّ، والحسرة، والنقْمة، والارتباك!؟ كان ينبغي يا صغيرتي أن تنتزعي حقّكِ بيديك عنوةً.. ما دام البقاءُ للأقوى، ولا مكانَ​​ تحتَ عينِ الشّمس لخائفٍ وضعيفٍ ومُتَرَدِّدٍ أو خجول.

​​ 

التقيتُ اليومَ بِرابعَة في موقفٍ للسيارات في الضاحيةِ الجنوبية، الضاحية التي صار يعرفها الجميع مثل صبرا وشاتيلا ولا يبعدان عنها​​ إلاّ قليلا؛ أو كَغزّةَ وقانا ودير ياسين، ومدرسة بحر البقر وسائر الأرض المغتصبة والمجازر البشعة. ألضاحيةُ بمبانيها المتواضعة وأزقتها الضيقة وأهلها الطيبين، قَصَفَتْها إسرائيلُ لثلاثة وثلاثينَ يوماً بلياليها فساوَتْها بالأرضِ ولم​​ تنهزم. هي المحطة والحكاية والتاريخ، وبعدَها غابتْ كلُّ الحكايا والأساطير.​​ 

 

كانتْ في سيارتِها النِّيسَانْ وبجانبِها طِفلتُها؛ طِفْلتُها تباركَ الخالق المبدع كأنّهَا تَحدّرتْ من أصولٍ مَلَكية. تَراها فَتُبَسْمْلُ وتسبِّح وتَدُقُّ على الخشب، خوفاً من العين لتُبْعِدَ عنها الحسدَ وغوايةَ الشياطين، ولا يغيبُ عن بالكَ بالمرّة أنّها ابنَتُها. عَرَفَتْني للتو واستوقفَتني ببسمتِها الجميلة المشرقة. أحسست بالخجل وقد غابتْ عن خاطري للوهلةِ الأولى. لكنّها حَفَّزَتْ ذاكرتي وأنعَشَتْها بِعَينَيْها المَسيحِيَتَين، فعَرَفْتُها في لحظات قليلة.​​ 

 

يا ربِّي؛ رفقا بقلبي رابِعَة بعينِها! "أْلحُسْنُ أقْسَمْتُ بِيوسُفِه ". يا ربي؛​​ قد عزَّ شهودي؛ رابعة الذكرى والينبوع والدموع والأمل المفقود. المودة الطاهرة التي لا تُمْحى ولا تزول. حَضَنَتْني بكثيرٍ من الوفاء والبقيا والمودَّة والوداعة واللهفة والمغفرةِ والحنين. أروع اللحظات أن يشعرَ الآخرُ أنّ قلبَكَ مشغولٌ بهِ.. وتتعطل لغة اللسان.​​ 

 

لاطفتُ شعرَ طِفْلَتِها ووجنتيها، وتبادلنا كلماتٍ تمنيتُها لو استغرقتْ وقتاً أطول؛ أو أنها لم تظهر لي وبقِيَتْ خَفْقَةً مَنْسِيَّة في البال! كنتُ مأخوذاً بالمفاجأة فلم أخطط لمزيد من الوقت، وأُماطِلْها في مزيدِ من الكلام.​​ 

 

لم يطلِ اللقاء؛ ودَّعَتْني وانصرفتْ، وخلَّفتْ في نفسي حسرةً وندامةً على زياد، الذي لم يُوَفَّقْ في قراراته العاطفية كما تمنيت؟ لعلَّ رابِعَة​​ أهمّ الأماني؛ التي فشل في صونِها ورعايتها، فلا تذبل زهرة حياته العطرة.​​ 

 

أيامَ الدراسة كانتْ زميلتُهُ في ثانوية "قصر الصنوبر" المُخْتَلَطَة. فتاةٌ تتمَيَّزُ بالعفويَّة، باديةُ الحضور؛ مُتَفِوِّقةٌ في صفِّها؛ ملحوظةُ الفطنة؛ لمَّاحةُ الخاطر؛ عزيزةُ النفس؛ مكحولةُ العينين؛ نشيطةٌ كالنحلة؛ وتهْوى العزفَ على الغيتار. فَتَنَتْ زياد بحضورها واستولتْ عليه. لم يدرك كم أحبته وهامت به؟! ليصونها في قلبه ورموش عينيه.​​ 

​​ 

كانتْ تتردَّدُ إلينا في أوقاتٍ متقاربة، لا يكادُ يمضي نهارٌ دونَ أن تزورَنا، وكانتْ حجَّتُها في الزياراتِ المتلاحقة صداقتُها لابنتي وغايَتُها في زياد. ابني ورجائي وحبَّة قلبي وأملي الموعود. لكن مذ كانَ الوفاءُ للقمح والملح والماء؟ وكان الرمل والبحرُ والسفر والحنين، كانتْ حكايةُ الشراعِ وأمْنِيَةُ المتنبي.. ثم كانت خيبتُهُ مع الريح.​​ 

 

انقطعتْ رابِعَة عن زيارتِنا فجأةً؛ وتولاّني عليها القلق. التقيتُها مراتٍ وشجعتُها على العودةِ إلى زيارتنا، واستجابتْ لألحاحي المتواصل.. لكنَّها كانتْ تأتي إلينا في أوقاتٍ تَعْرِفُ أن زياد غائبٌ عن البيت. استأنفتِ الحضور في زياراتٍ مُرْتَبِكة، يكتنفُها الجفاء والمرارة والتمني والتردُّد في الخلاص، وحسم العلاقة التي أدمتْ نفسها، وخدشتْ كبرياءَها. ثمَّ بدأتْ زياراتُها تتباعدُ بالتدريج حتى انقطعتْ.. فلازمتني خيبة غيابها وقتا​​ طويلا.​​ 

 

ألمرَّةُ الأخيرة التي التقيتُها فيها، كانت عندَ المنعطف على طريقِ "مدرسة قصر الصنوبر". استوقفَتْني والمهانة تكسو محياها، أرادتْ أن تقولَ شيئاً أو تشكو، ثم تراجعتْ وتعثّرتْ بدموعِها واختنقَ صوتُها داخلها، واختنقتُ في أعماقي من أجلها.. تركتني وأدارت​​ وجهها عني ثم انصرفتْ في حالها لا تلوي على شيء.

 

​​ وتبادَرَ إلى خاطري بكائية رامي والسنباطي، والشجى في لوعة أم كلثوم. يلي بكايَ شــــجاك وســـــمعت لحن الغزل من بين دموعي. ثم توَلاّني عليها ندم وقلقٌ وحزنٌ وغموضٌ وفائضُ حبٍ ونقمةٌ وحسرةٌ لا تهون.

 

كانَ​​ ينبغي يا صغيرتي أن تنتزعي حقَّكِ من الدُّنيا بيَدَيْكِ! إن لم تصدِّقي؟ فَسَلي الأرضَ الحرَّة بفعل النفوس المحررة تُنْبيكِ أنَّ البقاءَ للأقوى، ولا مكانَ تحتَ عينِ الشمس لضعيفٍ أو مُتَرَدِّدٍ أو خائفٍ أو متسوِّلٍ.. أو خجول.​​ 

 

​​ إن لم تصدقي؟ فويلُ لكِ​​ منكِ فقد حكمتِ على نفسك بالضَّيَاعِ، وحكمت علي بحسرة طويلة وندم لا يزول. ​​ 

 

 

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

استغاثة إنسانية!

Read Next

أيام الفيلم الروسي

One Comment

  • حقيقة الزمان؟ لحظة الحاضر المستمرة، والعودة بذكرياتنا إلى الماضي للتنقيب عن أجمل لحظات حياتنا، عمن نحب ومانحب، تعزية للنفوس عن الآم الحاضر أو الخوف من مستقبل مجهول، فنفقد فرح اللحظة الراهنة.

    أما عشق رابعة؟ ففيما يلخصه لنا مولانا جلال الدين الرومي عن الوداع لا يقع إلا لمن يعشق بعينيه، أما ذاك الذي يحب بروحه وقلبه فلا ثمة انفصال أبدا.

Comments are closed.