المستمع الوحيد للأمسية الشعرية

المستمع الوحيد

​​ للأمسية الشعرية

 

قصة: نبيل عودة

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\رامبو.jpg

 

 

بتواضع وخجل شديدين؟​​ قال الناقد​​ الأستاذ​​ مرقص في دراسة نقدية لديواني الأخير:​​ إنني شاعر موهوب وواعد​​ بنمطٍ​​ شعري جديد،​​ وإنه​​ من شدة شغفه فقد​​ قرأ​​ "يا طلة​​ أحبابنا"​​ ديواني الشعري الأخير​​ بنَفَس​​ متواصل​​ واحد، وإنه​​ تماهى طربا​​ من قدرتي اللغوية ومعرفتي الممتازة بالقواعد والإملاء.​​ إذ لم يجد​​ في الصفحة الواحدة​​ إلا خمسة​​ أخطاء فحسب.​​ ما يعتبر إنجازاً​​ شعريا ولغويا رائعا​​ للثقافة العربية​​ ​​ على مساحة​​ البلاد.​​ 

 

ويضيف​​ الناقد مرقص​​ قائلا:​​ إن هذا​​ إلاّ​​ تحوُّل​​ رائع​​ في الصياغة الشعرية،​​ وانخفاض​​ نسبة​​ الأخطاء​​ في الصفحة​​ إلى رقم من خانة واحدة،​​ لهو​​ إنجاز​​ ينبغي​​ أن يُسجلَ​​ باسمي.

 

كذلك أشاد الناقد​​ في​​ مقال​​ ضاقت بحجمه​​ صفحتان​​ من​​ جريدة​​ "الانفصال" ذات​​ الانتشار​​ الواسع، بأنني​​ حَقّقْتُ فَتْحاً​​ شعريا جديدا.​​ برزت​​ فيه مواهبي​​ كشاعر حداثي لشدة غرابة معاني شعري وتراكيبه،​​ التي​​ ينوء​​ بفهمها​​ الغير​​ بلا​​ شرح​​ وتوضيح​​ من​​ الشاعر والناقد.​​ 

 

​​ لكن؛​​ حمدا​​ لله أن أحداً لم​​ يسلني​​ شرحا​​ لشعري، لأني​​ أنا نفسي​​ ​​ والسر​​ بيني وبينكم لا أفهم​​ قيمة​​ مواهبي. بل​​ أحتاج لمن يشرح لي إبداعاتي.​​ تلك التي لم أتوقع أن تجد هذا التقويم النقدي الرائع، اعتمادا​​ دائما​​ على​​ مرقص​​ الناقد المبدع في​​ شرح​​ قصائدي.

 

بعد هذا التقويم الذي يثلج صدري وتطيب به نفسي؟ وأنا أجلس​​ في حفلات​​ التكريم لشعري،​​ وقد​​ كثر​​ معها​​ النقد​​ الموضوعي​​ البنّاء، وهو أمر أثار رهبتي في البداية، عندما دعيت​​ للتكريم​​ لأول مرة​​ في​​ "الخيمة المدنية"، كما​​ كُرِّمتُ في​​ "المكتبة العلمية"، وأصدرت مجلة​​ "المغرب"​​ عدداً خاصاً​​ للمناسبة،​​ ساهم فيه​​ ثلاثون​​ شاعراً وناقداً أشادوا جميعا​​ بتجربتي​​ الرائدة ومواهبي، وتكريم آخر كان​​ من نصيبي​​ في نادي الأدباء، وآخر​​ تكريم كان​​ على خشبة المنتدى الشعري،​​ الذي كان سابقاً خاناً للحمير.

 

​​ وهكذا​​ بفعل ضيق العين والحسد،​​ كتب​​ أحد​​ الغيارى​​ المقهورين من​​ التكريمات المتلاحقة​​ التي نالتني،​​ عنواناً استفزازياً لخبر​​ يقول:​​ "تكريم شاعر في خان الحمير"!

 

فليمتْ​​ في غيظه​​ هذا الصحافي​​ والأديب المتطفل، لأنني​​ واثق​​ بالتأكيد​​ أنه سيفشل​​ أقَلّه​​ في امتحان الإملاء​​ وكتابة الهمزة.​​ ​​ في الخلاصة؛​​ شاء من شاء وأبى من أبى؟​​ غدوت شاعرا،​​ واسماً معروفاً​​ غصبا عن أنفه،​​ تتمنى​​ معظم​​ الصحف أن​​ أنشر​​ فيها​​ قصائدي.​​ 

 

وهو ما دعاني غالبا​​ أن​​ أنشر​​ ذات​​ القصيدة​​ في عشر​​ صحف محلية،​​ وأتوسل النشر في​​ مواقع​​ مختلفة على​​ الشبكة العنكبوتية،​​ ثم إنني​​ أغيّر صورتي​​ شهريا​​ بصورة جديدة،​​ يلتقطها​​ أحد​​ أمهر​​ المصورين​​ بخلفية حدائق البهائيين،​​ أو​​ صخرة الروشة على​​ شاطئ البحر الأبيض المتوسط،​​ أو جبل الجرمق. لكن أحلى​​ صوري​​ إطلاقا كانت في​​ مكتبي، اقْتَنَصَها بعفوية بالغة مصور بارع،​​ وأنا​​ أفكر​​ وأحضن​​ ذقني وخدي​​ بباطن يدي​​ اليمنى.

 

أثناء​​ التكريم في​​ "خان الحمير"​​ أعني خان الحمير سابقاً،​​ وقد أمسى​​ اليوم مسرح المنتدى​​ الأدبي، قال مرقص:​​ إني​​ ربما​​ أكون الشاعر العربي الثاني بعد أدونيس، الذي سيُرشح بجدارة​​ عالية،​​ لجائزة نوبل​​ في الأدب​​ العربي،​​ ما أثلج صدري​​ حتى​​ خِفْتُ​​ أن​​ تتوقف​​ دقات​​ قلبي.​​ بالإضافة إلى​​ تعب​​ الجلوس​​ على مقاعد خشبية​​ تنال مني وترهقني.​​ 

 

المهم؛​​ أن مرقص يتقاضى ألف​​ شيكل عن كل حلقة تكريم، وهو​​ متفان​​ في​​ تعريف الحاضرين​​ بأدبي، لا يفوّت​​ حفلا واحدا​​ دون أن يهل بطلته​​ البهية،​​ ليتحف المستمعين بتقويمه​​ المنصف​​ لإبداعاتي،​​ وملكتي​​ الشعرية​​ وخصب خيالي،​​ واصفاً شعري بالتجديد والتحديث والانقلاب،​​ والثورة على المعاني والأوزان والأساليب القديمة.. ويكفي.​​ 

 

لكن؛​​ لو باح لي بالسر​​ همسا​​ من فمه لأُذني، كيف توصَّل إلى​​ هذا​​ الاستنتاج​​ الذي​​ لم يكن​​ بالأصل​​ في ذهني! لكنه مشكور إذ يشهد لي بالعبقريةِ​​ النادرة،​​ فالمبدع​​ شأنه​​ أن يبدع،​​ والناقد​​ مطالب فحسب​​ بتحليل عبقريتي،​​ إنها​​ رسالة​​ مرقص​​ بلا​​ نقاش​​ ولا​​ تفسير.

 

بعد شهرين كان من​​ دواعي غبطتي​​ واعتزازي​​ أن​​ أصدر ديواني،​​ وأن أدعى للمشاركة في أوسع​​ أسبوع للثقافة العربية.​​ هكذا​​ ظهر اسمي​​ إلى جانب​​ عشرة من أبرز شعراء وشاعرات شعبنا​​ الذواق، لإحياء أمسية عريفها​​ كما في كل مرة؛​​ مرقص​​ الناقد اللماح.

 

في الليلة الموعودة تحممت مستعملاً صابوناً​​ مميزاً،​​ مصنوعا​​ من زيت الزيتون المعطر بشذا​​ الغار، لعل​​ وعسى​​ الشاعرات الأنيقات ينتبهن لطيب عطري..​​ من يدري؟​​ ​​ 

 

رحتُ​​ أولا​​ إلى​​ كوافير​​ نسائي ليصفف​​ لي​​ شعري بما يليق​​ بالأمسية الشعرية، ويضمن قلوب​​ الشاعرات نحوي،​​ فشذّب لي​​ حواجبي وقضى على الشعر​​ الزائد في أذنيّ​​ وأنفي،​​ ثم قلّم​​ أظافري​​ وغطاها​​ بمانيكور لا لون له، لكنه​​ ​​ يضفي بريقا​​ أخاذا​​ على أظافري.​​ 

 

ثم​​ اشتريت قميصاً وبنطالا​​ من ماركة​​ مبتكرة كلفاني​​ (1825) شيكل،​​ وحذاءً​​ إيطاليا​​ أسود​​ دفعت ثمنه​​ (640) شيكل. ولكي أبدو​​ حضارياً وحداثياً اشتريت سوارا عريضا من​​ الذهب​​ الخالص بلغ ثمنه​​ (3250) شيكل،​​ أزين​​ به​​ معصمي وأحرك يدي ذات اليمين وذات اليسار.​​ كذلك اشتريت زجاجة بيرفيوم للرجال كلفتني​​ أيضا​​ (650) شيكل.​​ ويقول أصحاب التجربة​​ المماثلة:​​ إنها كفيلة بترويض أشد​​ النساء​​ غرورا​​ وتيها.​​ 

 

ومن أجل​​ تغطية نفقاتي؟​​ فقد​​ طالبتُ​​ والديّ​​ وأنا المدلل الوحيد،​​ أن يحصلا على قرض​​ لمصلحتي​​ من​​ مصرف،​​ يسددانه بأقساط شهرية من معاش التقاعد، فابنهما شاعر​​ ​​ مرموق،​​ وها أنا أقرأ لهما المقال النقدي​​ وإعجاب​​ مرقص​​ بشعري، وأنقل لهما​​ أخبار التكريم​​ فلم​​ أذكر خان الحمير باسمه،​​ بل بالاسم المُوحي​​ الجديد​​ مسرح المنتدى​​ الفكري.​​ 

 

والحق​​ أن والدي اعترض​​ بشدة​​ قائلاً:​​ "هل تريدنا أن نجوع ستة أشهر من أجل نزواتك؟ ارجع إلى عملك في التبليط واتركنا من​​ تنميق​​ الكلام،​​ الذي لا يطعم خبزاً ​​​​ ولا يجدي، هل تحسب​​ ما تكتبه شعراً؟!​​ كنت معلماً​​ ولا أجد جملة مفيدة​​ تنفعك وتنفعني!

 

جاهل !!​​ قلتُها وكتمتها في قلبي وفكري

 

لكن أمي​​ كسائر الأمهات؛​​ كانت​​ تشجعني​​ وتقف بجانبي،​​ وقبل​​ مغادرتي​​ بسيارة​​ تاكسي رشتني بالملح، درءا للعين​​ فلا أصاب​​ بمكروه من أهل​​ السوء..​​ بفعل الغيرة مني.

 

في الأمسية الموعودة كنت​​ بلا تواضع​​ الأكثر​​ ألقا​​ وتوهجاً. أرفع​​ كمَّ​​ قميصي​​ من حين إلى حين،​​ وأقلِّبُ​​ يدي​​ بحركة نصف​​ دائريٍّة،​​ لألفت​​ انتباه​​ الجمهور​​ إلى​​ السوار الذهبي​​ في معصمي. لكن​​ المؤسف​​ حقا​​ أن​​ عدد​​ الحضور​​ في القاعة​​ كان قليلاً،​​ فلم يتعدَ​​ ثمانية​​ معجبين، ما يعني أنهم​​ أقل​​ باثنين​​ من عدد الشعراء​​ المشاركين.​​ ولو​​ أضفنا​​ مرقص​​ الناقد​​ والعريف؟​​ لصاروا​​ على المنصة​​ أحد عشر كوكبا،​​ سمعهتهم باسمي يلهجون.​​ 

 

تأخر​​ الموعد​​ نصف ساعة​​ عن الوقت المحدد.​​ إن هو إلاّ​​ ضرب ذكاء​​ من​​ مرقص، يعتمد​​ التأخير والتشويق،​​ حتى قرر​​ بدء الاحتفال​​ احتراماً​​ لحضور ولو متواضع وقليل.

 

​​ ما إن​​ انتهى أول شاعرين من إلقاء​​ ما تَفَتَّقَ​​ عنه خيالهما الخصب، حتى بدا الملل على المستمعين، وبدأوا​​ ينسحبون بالتدريج، ولم​​ ​​ يبق​​ في القاعة​​ إلاّ مستمع وحيد.

 

​​ تبا لنا.. يا للفضيحة والعار على هذا التكريم الشنبع والمستوى​​ الثقافي​​ المنكود.​​ هكذا​​ وبعد التشاور بيننا..؟​​ قررنا​​ مواصلة القراءآت الشعرية​​ احتراماً للمستمع اليتيم.

 

​​ ورحنا نلقي​​ قصائدنا،​​ فترنّمنا​​ وأجدنا احتراماً للمستمع الوحيد،​​ وقد بدأت​​ تبدو​​ عليه في الساعتين الأخيرتين​​ إمارات التعب​​ والسوء​​ الشديد، لكنه لم يغادر​​ مقعده​​ إيمانا وحبا بالشعر​​ والأدب​​ الرفيع،​​ فتواصلتِ​​ الأمسية لأربع ساعات​​ احتراماً للمستمع الكريم!!

 

وعندما انتهينا​​ جميعا​​ من إلقاء قصائدنا؟​​ قررت أن أتوجه لشكر​​ هذا المستمع الذي رغم ما بدا عليه من​​ الإرهاق​​ والملل؟ ينبغي؛​​ بل يستحق أعلى مراتب المودة والتقدير.​​ 

 

وفي قرارة نفسي​​ اتخذت قرارا أن​​ أوقع له​​ وأهديه​​ نسخة من​​ ديواني الأخير، أقل ما يمكن فعله اعترافاً​​ مني​​ بكياسته وذائقته​​ الأدبية​​ المنقطعة النظير.​​ لكنه فاجأني؟

 

وراح​​ يلوح غضباً​​ بيده، وهو​​ يقذف​​ الديوان​​ في وجهي​​ ويقول:​​ تعبت رجلاي​​ من​​ شدة​​ التعب وطول الجلوس. قاتلكم الله​​ قتلتموني​​ وعفتُ​​ ديني،​​ هيك وهيك​​ بأم الشعر.​​ أنا البواب​​ صبرت​​ أكثر مما ينبغي​​ على​​ ثرثرتكم،​​ لأقفل القاعة​​ وأستغرق في نوم عميق.

 

nabiloudeh@gmail.com

 

للمشاركة

nabilawdeh

Read Previous

هلاّ رحمتِ مُتَيّماً..؟

Read Next

في البال أغنية

2 Comments

  • وصلني إطراء على بريدي تتناول فيه صاحبته القصة
    لكنها آثرت أن تتوجه إلي بالتعقيب
    ووجدتُ من الأمانة أن أشكرها وأنقل على لسانها ما تقول:

    كنتُ قد آثرتُ حقيقة لبعض الدواعي أن أبقى بعيدة
    عن الشأن ألادبي الذي أتذوقه ولا أنتمي إليه
    إلا أن نص الأستاذ نبيل عودة المنشور حديثا شدني اليه
    وأدهشتني لغته وسرده وتشويقه ودقة وَصْفِهِ.. وتفاصيله
    وعنصر المفاجاة العامل الأهم الذي تميّز به

    ليذكرني بإحدى حلقات المبدع الكبير دريد لحام في دور غوار الطوشي
    وهو مندمج على خشبة المسرح في قهوة أبي صياح
    يترنم بالغناء إيمانا منه أنه مطرب العصر الذي لا مثيل له
    وكان هناك من أوحى له وأوهمه بألق حضوره.. ورخامة صوته

    وحينما انزعج الحضور من نشاز صوته وبدأوا ينسحبون الواحد تلو الآخر
    حتى إذا لم يبق إلا مستمع واحد..؟ تبين أنه مصاب بالطرش

    قفلة رائعة أنهى بها نبيل عودة نصه بسحر لا يقل عن سحر غوار الطوشي

  • القصة تستحق القراءة والاهتمام، والخاتمة لم تخل من عنصر المفاجأة…

    خالص مودتي

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *