الدُّمية الأب

 

الدُّمية الأب

 

أعدَّتها للنشر​​ 

​​ سوسن يوسف

 

​​ من وحي​​ الكاتبة

والصحافية الأمريكية​​ 

الراحلة

" إيرما بومبيك"​​ 

 

C:\Users\ibrah\OneDrive\Desktop\الحزينة.jpg

 

 

لم يكن أبي يفعل شيئا​​ فعلام​​ أحن إليه​​ وأفتقده​​ الى هذا الحدّ!؟​​ عندما كنت صغيرة بدا لي أن الأب​​ يشبه​​ مصباح الثلاجة.​​ في كل بيت​​ ثلاجة وفي كل ثلاجة​​ مصباح؛​​ لكن أحداً لا​​ يعرف​​ على وجه الدقة،​​ كيف يقضي​​ المصباح​​ وقته​​ في الداخل،​​ وما​​ الذي​​ يفعله​​ حينما​​ ينغلق​​ عليه​​ باب البرَّاد..؟

 

كان أبي يغادر البيت كل صباح​​ وحينما​​ يعود مساء؟​​ كان يبدو​​ لي​​ أنه​​ سعيدٌ​​ برؤيتنا​​ من جديد.​​ كان​​ يفلح في​​ فتح سدَّادة​​ وعاء​​ المخللات على المائدة،​​ حينما​​ يعجز​​ عن فتحها​​ الجميع.​​ وهو​​ الوحيد في البيت​​ الذي​​ يتحلى بالشجاعة​​ الكافية،​​ فلا يخشى​​ النزول إلى القبو​​ بمفرده وسط الظلام.

 

حينما كان​​ يحلق ذقنه​​ يجرح​​ أحيانا​​ وجهه​​ بالموسى.​​ لكن أحداً لم​​ يكن​​ يتقدّم ليقبله أو يهتم بما حصل له.​​ وحينما​​ يمرض أحدنا نحن الأولاد؟​​ كان هو من​​ يسرع إلى​​ الصيدلية لإحضار الدواء.​​ 

 

في​​ موسم​​ الورد​​ كان​​ ينشغل​​ بقص​​ الأغصان​​ اليابسة​​ من​​ الممر​​ المؤدي إلى​​ باب​​ المنزل،​​ فلا تربكنا​​ الأغصان الزائدة.​​ يتعرق جبينه ویعاني من وخز​​ الأشواك​​ في أصابعه ويديه​​ طيلة اليوم.

 

كان​​ يتولى​​ تزييت​​ عجلات​​ زلاجتي،​​ لكي​​ أتمكن من​​ الجري على نحو أسرع.​​ وحينما​​ اشترى لي​​ دراجة​​ كان​​ يركض إلى جانبي​​ طويلا. لعله​​ قطع​​ آلآف الأميال​​ قبل أن​​ أتحكم​​ بالدراجة​​ بمفردي.​​ 

 

هو الذي كان يوقع بيانات علاماتي المدرسية​​ يبتسم لي​​ ويربت على ظهري،​​ وقد​​ صوّرني آلآف المرات؛​​ دون أن يظهر​​ معي​​ في​​ صورة​​ واحدة.​​ كان​​ أيضا​​ يشد حبال الغسيل المرتخية​​ لأمي.

 

​​ لطالما​​ أخافني​​ آباء الأولاد​​ الآخرين، وحده​​ أبي​​ كان​​ لا يخيفني.​​ أعددت له الشاي مرة​​ وكانت​​ الشاي مُسْتَهْلَكَا بفعل استخدامه​​ للمرة الثانية. وما أعددته كان​​ لا​​ يزيد عن ماء محلى​​ بالسكر​​ بلا​​ نكهة​​ ولا​​ لون.​​ مع ذلك جلس في مقعده​​ وبدا​​ لي​​ مرتاحا،​​ وأخبرني أن​​ الشاي​​ كان لذيذاً​​ حقا.

 

عندما كنت ألهو بلعبي؟​​ كنت أوكل​​ للدمية الأم مهمات​​ كثيرة​​ لا تحصى، وأجهل​​ ماذا أُسْنِدُ​​ من الأعمال للدمية الأب، لذلك كنت أتصوره يقول:​​ إنني ذاهب للعمل الآن، ثم أقذف به تحت السرير.

 

ذات صباح​​ مشؤوم​​ عندما كنت في التاسعة من عمري؟​​ نهض الجميع​​ وحده​​ أبي​​ لم ينهض ليذهب الى العمل​​ كالعادة.. بل​​ قدمت​​ سيارة الإسعاف​​ لتحمله​​ إلى المشفى؛ ووافته المنية في اليوم التالي.​​ 

 

​​ وحينما أويت إلى​​ حجرتي​​ مساء؟​​ تلمست​​ ما​​ تحت السرير​​ وأنا أبحث عن الدمية،​​ وحينما وجدت الدمية الأب؟​​ نفضت عنه الغبار ووضعته على الفراش،​​ ووسادتي الناعمة وضعتها تحت رأسه.

 

لم أكن أتصور​​ رحيله​​ سيؤلمني​​ لهذا الحد؟​​ واليوم​​ أفتقده وغيابه يوجعني​​ ويستنزف​​ آهتي ودمعي.​​ 

 

للمشاركة

Sawsan

Sawsan

Read Previous

في البال أغنية

Read Next

دقيقة فحسب

8 Comments

  • أريد أن أعبّر عن إعجابي بهذا النصّ وهذه اللفتة الرائعة أو الحبكة الجميلة بألوانها الزاهية
    شكراً سوسن

  • أحسنت فعلا اختيار ما تقرئين
    الشكر لك مني أيضا يا سوسن

  • أحسنت سوسن
    نص مؤثر جدا
    تعجز كل الكلمات عن مجاراة مافي قلب الفتاة
    من حب للرجل الأول في حياتها
    أسأل الله أن يحفظهم لنا
    ويبقينا في ظلهم دائما

  • “ليتني التقطت معه ولو صورة واحدة..؟
    من بين عشرات الصور
    التي التقطتها مع صديقاتي ومعارفي
    وحفظتها في ألبوماتي القديمة..
    وليتني كنت أؤجّل كلّ مشاويري
    وأجلس معه ولو ساعة واحدة..
    قبل أن يغادرنا ويرحل

    ليتني مسدت يده الخشنة..
    التي قلّبت تربة البراري..
    وخير الأرض بفضله فاض عليّ وعلى اخوتي..
    ليتني قبلت جبينه الأبيض لوقت أطول
    جبينه الذي اكتوى في صيف الحقول..
    دون أن يأبه به أحد..
    ليتني قبلت منه ما حمل لي من طعام
    عندما لحقني به إلى لمدرسة..
    ولم أردّه خائبًا أمام زميلاتي..
    ليتني… وليتني.. لم يعد يجدي التمني

    نصّك يا سوسن أوقظ مواجعي..
    ونبش في قلبي ألف حسرة..
    وفي صدري ألف غصّة..
    شكرًا على اختيارك الإنساني.
    الموفق..
    وحفظ الله والديك وأهلك..
    خيمة حبّ..
    تحميك وترعاك…
    خوفي أن نتحول كلنا.. كالدُمية الأب.

  • يخلي ولادك د. أحمد.. ويطول بأعماركم جميعا

  • أنت يا أشواق صديقة عزيزة
    على قلوبنا جميعا
    مبروك لك مزنة
    الإصدار الأول.. والعقبى
    للإصدر الثاني.. وما يلي
    مودتي وتحياتي للجميع

  • الأستاذة شهربان

    أهلا بك صديقة يشرفني أن أتعرف إليها
    رغم الجغرافيا الشاسعة التي تفصلنا
    وأن يعجبك ما وقعتُ عليه
    لتبقى الصورة الآسرة عن الكاتبة والأب
    ماثلة في وجدان الفتيات مع آبائهن.. وأمهاتهن

    يتراءى لي يا صديقتي من خلال هذا الحنين
    المطعم بالشمس وشوك الحقول
    والأيدي الخشنة التي أحسنت التعاطي
    مع تراب الأرض والمواسم السخية
    التي أطعمتكم من خير يديه وخير ترابها
    أنك مخلوقة لم تكن إلا بارّة بأهلها وأبيها
    فلتنظري إلى ماكان بينكما
    بعين الوداعة لا بعين المأساة والتقريع
    ألف شكر لك على اهتمامك.. وعنايتك

  • الدمية الأب..
    نص يفيض بمشاعر إنسانية رقيقة..

    مودتي والورد

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *