دقيقة فحسب

دقيقة فحسب

 

trotteuse de montre

 

​​ ​​ محمد عبد الوهاب جسري

 

​​ ​​ اختارتها وأعدَّتها للروافد

​​ سوسن يوسف​​ 

 

في مدينة أوروبية كنت أقف أمام شباك التذاكر​​ منتظراً دوري،​​ لأشتري بطاقة سفر​​ في​​ الحافلة إلى مدينة تبعد حوالي 330 كم.

 

وكانت أمامي سيدة ستينية تحول بيني وبين شباك التذاكر.​​ طال حديثها مع الموظفة التي قالت لها في النهاية: الناس ينتظرون، أرجوكِ تنحّي جانباً​​ !

 

فابتعدت المرأة خطوة واحدة لتفسح لي المجال، وقبل أن أشتري بطاقتي سألت الموظفة عن​​ ​​ خطب السيدة، فقالت لي بأن هذه المرأة معها ثمن بطاقة السفر،​​ وليس معها يورو واحد قيمة بطاقة دخول المحطة، وتريد أن تنتظر الحافلة خارج المحطة وهذا ممنوع.

 

قلتُ لها: هذا يورو..​​ أعطها البطاقة​​ لو سمحت؟​​ وتراجعتُ قليلاً​​ ​​ وتركتُ​​ مجالا​​ للسيدة لتعود​​ إلى شباك التذاكر​​ بعد أن نادتها الموظفة مجدداً.

 

اشترت السيدة بطاقتها ووقفت جانباً​​ كأنها تنتظرني، فتوقعت أنها تريد أن تشكرني، إلا أنها لم تفعل، بل انتظرتْ لتطمئن إلى أنني اشتريت بطاقتي،​​ وسأتوجه إلى المحطة لركوب الحافله، وقالت لي بصيغة الأمر:

 

احمل هذه... وأشارت إلى حقيبتها.

كان الأمر غريباً جداً بالنسبة لي،​​ فهؤلاء الناس يتعاملون بلياقة ليس لها مثيل.​​ فكيف تتعامل معي السيده بهذه الطريقة!؟

 

بدوري؛​​ وبدون تفكير حملت لها حقيبتها واتجهنا سوية إلى الحافلة. ومن الطبيعي​​ أن يكون مقعدي بجانبها لأن​​ دورها كان​​ قبلي​​ مباشرة. حاولت أن أجلس من جهة النافذة لأستمتع بمنظر​​ تساقط الثلج الذي بدأ​​ هطوله​​ منذ ساعة،​​ وكأنه يقول وهو يمحو جميع ألوان الطبيعة معلناً بصمته الشديد: أنا الذي آتي لكم بالخير وأنا من يحق له السيادة الآن.

 

لكن السيدة منعتني من الجلوس بجانب النافذة،​​ وجلستْ هي من جهتها​​ دون أن تنطق بحرف واحد.​​ رحتُ أنظر أمامي ولا أعيرها اهتماماً، إلى أن التفتتْ إلي تنظر في وجهي وتحدق فيه، وطالت التفاتتها نحوي دون أن تنطق ببنت شفة،​​ وأنا أنظر أمامي حتى​​ أنني بدأت أتضايق من نظراتها،​​ التي لا أراها لكنني أشعر بها فالتفتُ إليها.

 

عندها تبسمتْ قائلة​​ لي: كنت أختبر مدى صبرك وتحملك​​ !

-​​ صبري على ماذا؟

 

-​​ على قلة ذوقي، أعرفُ تماماً بماذا كنتَ تفكر.

قلت لها: لا أظنك تعرفين بما كنت أفكر، وليس مهماً أن تعرفي​​ !

 

قالت: حسناً، سأقول لك لاحقاً، لكن بالي مشغولٌ الآن​​ كيف سأرد لك الدَّين.

 

قلت لها: الأمر لا يستحق،​​ فلا تشغلي بالك​​ سيدتي.

قالت: عندي حاجة سأبيعها الآن وسأرد لك اليورو،​​ فهل تشتريها أم أعرضها على غيرك؟

 

قلت : هل تريدين أن أشتريها قبل أن أعرف ما هي؟

قالت : إنها حكمة، أعطني يورو واحداً​​ وتنال​​ حكمتي.

 

قلت لها: وهل ستعيدين لي اليورو إن لم تعجبني الحكمة؟

قالت: لا.. فالكلام بعد أن تسمعه لا أستطيع استرجاعه، ثم إن اليورو​​ الواحد يلزمني لأنني أريد أن أسدد​​ به دَيني.

 

أخرجتُ​​ لها اليورو من جيبي ووضعته في يدها،​​ وأنا أنظر إلى تضاريس وجهها.

 

لا زالت عيناها تلمعان كبريق عيني شابة في مقتبل العمر، وأنفها الدقيق مع​​ عينيها​​ توحي​​ بذكاء ثعلبي، مظهرها يدل على أنها سيدة متعلمة، لكنني لن أسألها عن شيء، أنا على يقين أنها ستحدثني عن نفسها فرحلتنا لا زالت في بدايتها، أغلقت أصابعها على القطعة النقدية التي فرحت بها،​​ كما يفرح الأطفال عندما نمنحهم​​ بعض النقود.

 

وقالت: أنا الآن متقاعدة،​​ وكنت أعمل مدرّسة لمادة الفلسفة.​​ جئت من مدينتي لأرافق إحدى صديقاتي إلى المطار. أنفقتُ كل ما كان معي وتركتُ ما يكفي لأعود إلى بيتي، إلا أن سائق التاكسي أحرجني وأخذ مني يورو واحدًا زيادة، فقلت في نفسي سأنتظر الحافلة خارج المحطة، ولم أكن أدري أن ذلك ممنوع.

 

أحببتُ أن أشكرك بطريقة أخرى بعدما رأيت شهامتك، حينما​​ دفعت عني دون أن أطلب منك.

 

الموضوع ليس مادياً. ستقول لي بأن المبلغ بسيط،​​ سأقول لك أنت سارعت بفعل الخير​​ دونما تفكير.

 

قاطعتُ المرأة مبتسماً: أتوقع بأنك ستحكين​​ لي قصة حياتك، لكن أين البضاعة التي اشتريتُها منكِ ؟ أين الحكمة؟

قالت:​​ ​​ "دقيقة​​ فحسب"

 

قلت لها : سأنتظر دقيقة.

قالت لي : لا، لا، لا تنتظر.

"​​ دقيقة​​ فقط​​ ".. هذه هي الحكمة​​ !

قلت: لم افهم شيئاً​​ !

 

قالت: لعلك تعتقد أنك تعرضتَ لعملية احتيال؟

قلت: ربما!

 

قالت: سأشرح لك الحكمة..​​ هي دقيقة​​ فحسب؟

 

لا تنسَ هذه الحكمة أبداً​​ في كل أمر تريد أن تتخذ فيه قراراً، عندما تفكر في أي مسأله في الحياة، وعندما تصل إلى لحظة اتخاذ القرار​​ اعطِ نفسك "دقيقه​​ فحسب" دقيقة واحده إضافية، ستين ثانية​​ فحسب.

 

هل تعلم كم من المعلومات يستطيع دماغك أن يعالج خلال ستين ثانية؟

 

في هذه الدقيقة التي ستمنحها لنفسك قبل اتخاذ قرارك قد تتغير أمور كثيرة ولكن بشرط واحد.

 

قلت: وما هو الشرط؟

 

قالت : أن تتجرد​​ من نوازع نفسك، وتُودع في داخل دماغك وفي صميم قلبك جميع القيم الإنسانية والمُثل الأخلاقية دفعة واحدة،​​ وتعالجها معالجة موضوعية دون تحيز.

 

إن كنت قد قررت​​ مثلا​​ بأنك صاحب حق وأن الآخر قد ظلمك؟​​ فخلال هذه الدقيقة وعندما تتجرد​​ من نوازع نفسك،​​ ربما تكتشف بأن الطرف الآخر لديه حق أيضاً، أو جزء من هذا الحق، وعندها قد تغير قرارك تجاهه.

 

إن كنت نويت أن تعاقب شخصاً ما، فإنك خلال هذه الدقيقة بإمكانك أن تجد له عذراً فتخفف عنه العقوبة أو تمتنع عن معاقبته وتسامحه نهائياً.

 

دقيقة واحدة بإمكانها أن تجعلك تعدل عن اتخاذ خطوة مصيرية في حياتك لطالما اعتقدت أنها هي الخطوة السليمة، في حين أنها قد تكون كارثية.

 

دقيقة واحدة ربما تجعلك أكثر تمسكاً بإنسانيتك وأكثر بعداً عن أهوائك وغرورك.

دقيقة واحدة قد تغير مجرى حياتك وحياة غيرك، وإن كنت من المسؤولين فإنها قد تغير مجرى حياة مجموعة كاملة من البشر!

 

هل تعلم أن كل ما شرحته لك عن الدقيقة الواحدة لم يستغرق أكثر من دقيقة واحدة؟

 

قلت لها: صحيح، وأنا قبلتُ برحابة صدر هذه الصفقة وحلال عليكِ اليورو.

 

بسطت يدها وقالت : تفضل، أنا الآن أردُّ لك الدين وأعيد لك ما دفعته عني عند شباك التذاكر. والآن أشكرك كل الشكر على ما فعلته لأجلي.

 

أعطتني اليورو،​​ فتبسمتُ في وجهها واستغرقت ابتسامتي أكثر من دقيقة. لأنتبه إلى نفسي وهي تأخذ رأسي بيدها وتقبل جبيني قائلة: هل تعلم أنه كان بالإمكان أن أنتظر ساعات دون حل لمشكلتي. فالآخرون لم يكونوا ليدروا ما هي مشكلتي، وأنا ما كنتُ لأستطيع أن أطلب اليورو من أحد!

 

قلت لها: حسناً، وماذا ستبيعينني لو أعطيتك مئة يورو؟

قالت : سأعتبره مهراً وسأقبل بك زوجاً!

 

علتْ ضحكاتُنا في الحافلة،​​ وأنا أُمثّلُ بأنني أريد النهوض،​​ ومغادرة مقعدي هربا وهي تمسك بيدي قائلة: اجلس فزوجي متمسك بي وليس له مزاج أن يموت قريباً!

وأنا أقول لها: " دقيقة​​ فحسب​​ "...."​​ دقيقة​​ فقط​​ ".

 

لم أتوقع بأن الزمن سيمضي بسرعة، حتى​​ أنني شعرت بنوع من الحزن عندما غادرتْ الحافلة،​​ عند وصولنا إلى مدينتها في منتصف الطريق تقريباً، وقبل ربع ساعة من وصولها حاولتْ أن تتصل من جوالها​​ بابنها كي يأتي إلى المحطة ليصطحبها، ثم التفتتْ إليّ قائلة: على ما يبدو أنه ليس عندي رصيد.

 

فأعطيتها جوالي لتتصل،

 

المفاجأة أنني بعد مغادرتها للحافلة بربع ساعة تقريباً استلمتُ رسالتين على الجوال، الأولى تفيد بأن هناك من دفع لي رصيداً​​ للهاتف​​ بمبلغ يزيد عن​​ ​​ عشرة​​ ​​ يورو.

 

والثانية منها تقول فيها: كان عندي رصيد في هاتفي لكنني احتلتُ عليك لأعرف رقم هاتفك فأجزيكَ على حسن فعلتك، إن شئت احتفظ برقمي، وإن زرت مدينتي فاعلم بأن لك فيها أمّاً ستستقبلك.

 

فرددتُ عليها برسالة قلت فيها: عندما نظرتُ إلى عينيك خطر ببالي أنها عيون ثعلبية، لكنني لم أجرؤ أن أقولها لك. أتمنى أن تجمعنا الأيام ثانية، أشكركِ على الحكمة واعلمي بأنني سأبيعها بمبلغ أكبر بكثير.

 

"​​ دقيقة​​ فحسب" حكمة أهديها لكم، فمن يقبلها مني في زمن نهدر فيه​​ كثيراً​​ من الساعات دون​​ ​​ جدوى.

 

 ​​ 

للمشاركة

Sawsan

Sawsan

Read Previous

الدُّمية الأب

Read Next

اِرْفَعْ بِرَأسِكَ أَيُّها السَّاجدْ

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *