عجيبة بيت “أبو بشارة”

عجيبة بيت​​ "أبو بشارة"

​​ قصة: نبيل عودة

 

تاريخ الأديان - موضوع

 

 

- عجيبة، يا أم بشارة.. استيقظي.. القديسة العذراء الممتلئة بالنعمة... بارك الله اسمها... باركت بيتنا. استيقظي يا أم بشارة.. !!

 

انطلق صوت أبي​​ بشارة من المفاجأة غير المتوقعة، لم يصدق ما تراه عيناه، وأخذ يردد مبتهلا:

 

- مريم العذراء يا اُمي الحنونة، كم من مرةٍ​​ أخطأتُ وتُسامحيني

 

وكم من مرةٍ ابتعدتُ عنكِ وعندما أعودُ؛​​ بكُلِ شوقٍ تستقبليني.

 

لم يُسمع قط​​ أن​​ أحداً التجأ إلى حمايتِك وطلب معونتكِ ورُدّ خائباً.

 

انطلق صوت أبي​​ بشارة من​​ المفاجأة غير المتوقعة، وهو ينظر​​ بغتة​​ الى تمثال السيدة العذراء، المثبت في زاويةٍ إزاء​​ أحد​​ أعمدة​​ البيت،​​ غير قادر على تصديق ما تراه عيناه، من زيت زيتون فاخر، يرطب قاعدته، في البداية لامس السائل بأصابعه، وطأطأ رأسه ليتأكد بالشم أيضا أن الزيت الذي يرطب قاعدة تمثال السيدة العذراء،​​ التي اختارها الله لتلد ابنه المخلص، هو زيت الزيتون المقدس حقا، ويمتد من قاعدة التمثال حتى نصف متر على الأقل تحت القاعدة، حيث وضع تمثال السيدة العذراء داخل​​ كوة​​ حُفِرَتْ​​ خصيصا منذ أيام والده،​​ ليوضع فيها تمثال العذراء المكرمة.

 

كان الزيت يتزايد ببطء شديد.. تأكد هذا حين جفّف قاعدة التمثال بفوطة خوفا من​​ أن يكون ما يراه خدعة بصرية.

 

هو حقا زيت الزيتون المبارك كَنَسِيّا،​​ ثبتَ​​ له هذا الأمر باللمس والشم، بل وبتذوقه لأطراف أصابعه لمزيد من التأكد.

 

ارتعشت قسمات وجهه، وبانت السعادة على محياه من هذه المفاجأة في هذا الصباح الربيعي المشرق. كان متأكدا أن دعواته وصلواته هو وأهل البيت، وجدت آذانا​​ صاغية وها هي الإشارة​​ تجيئ في هذا الفجر الزاهي، دليل​​ أن الله يرعاه ويرعى أهل بيته،​​ لأن الله يعرف ما في القلوب والضمائر ولا تضلله المظاهر والخدع، وها هو التأكيد يجيء من حيث لم يتوقع بابلغ شكل وأقوى صورة، زيت الزيتون المقدس يطفو​​ من تحت تمثال السيدة العذراء،​​ ويرطب قاعدته​​ وعمود البيت حيث حُفرت زاوية العمود المقابل لمدخل البيت، ليتسع للسيدة أم المسيح ابن الله ليتبارك اسمها واسمه واسم الرب، تماما في مواجهة كل من يدخل بيت أبي​​ بشارة.

 

لا يعرف إذا كان قد كرر نداءه لأم بشارة أكثر من مرة، فقد أيقظ صوته المنفعل مما يرى، والمرتعش من المفاجأة أهل البيت، فتجمعوا في الديوان الرحب، متثائبين من إيقاظهم قبل الوقت​​ بساعتين، ومتوجسين من أمر غير مرغوب،​​ لا يدرون كنهه قد يكون ألمّ​​ بربِّ​​ البيت، فهم لم يستوعبوا من صوته المتهدج،​​ إلا أنه حدث ما يثير التوجس من مكروه، أو مفاجأة لا يعلمون​​ وقعها،​​ جعلت​​ ربّ​​ البيت الذي يستيقظ قبل الجميع بساعتين على الأقل،​​ يطلق صوته المنفعل في ساعات مبكرة من ذلك الفجر الزاهي.

 

لم تمض إلا ثوان قليلة، حتى أصابهم ما أصاب​​ ربّ​​ البيت وعميده من المفاجأة السارة لمرأى السيدة العذراء تبارك بيتهم بزيت الزيتون المقدس، وهي علامة لاستجابة الرب لأبنائه المخلصين، كما كان يقول​​ عميد العائلة أبي​​ بشارة بتهدج وتوتر من السعادة.

 

نسوان الحارة​​ أول من عرف بخبر العجيبة. والنساء لمن لا يعلم؟​​ أفضل جهاز إعلامي عرفته البشرية. في ذلك الصباح أسرعت​​ أم بشارة تدعو​​ جاراتها لتناول قهوة الصباح ورؤية عجيبة العذراء في بيتها. جئن بشيء من الاستهجان، فزمن العجائب قد​​ ولى. ولكن ما شاهدنه بالعين ملأهن​​ برهبة الإيمان وخشوعه، فتمتمن​​ بشكل جماعي "السلام عليك يا مريم"، وتباركن بقطع قطن مبللة بالزيت المريمي،​​ دليل قاطع لمكرمة العذراء لبيت​​ أبي​​ بشارة، وتيمنا وأملا​​ أن قطعة القطن بما تحمله من زيت مريمي قداسته مؤكدة،​​ هي أفضل​​ مباركة للمنازل والأهل وكل من تناله مسحة من زيتها.

 

كادت أم بشارة تفقد توازنها،​​ وهي تحدث نسوان الحارة عن العجيبة ومعناها،​​ التي اختصهم بها الله. قالت كلاما عاقلا وكلاما​​ لا يدخل العقل،​​ ويصنف في ظروف أخرى "بكلام مجانين". ولكنها العجيبة التي أغلقت كل مسارات التفكير العاقل.. من شدة مفاجأتها وإثباتها بالرؤية واللمس والتذوق لمن أراد مزيدا من الإثبات العملي.. وها هن نسوان الحارة تشل المفاجأة السنتهن، فلم يتحدثن عن فلانة التي خطفت، وابنة فلان التي لم تبق شابا​​ من شرها، وزوجة فلان "المشلطة"، و"أبو جعفر"، الله يستر، الذي يصرف ما يربح على بنات​​ الشوارع في المدينة المجاورة.. قصص لا يعلم​​ إلا الله مصدرها وصحتها.

 

الزيت المقدس يزداد ببطء شديد تحت قاعدة تمثال العذراء، وهو زيت فاخر مثل الزيت الذي يستعمل في الكنيسة في جميع المناسبات​​ الدينية. زيت تثبت رائحته وطعمه​​ أنه من النوع الفاخر جدا،​​ مثل زيت كرم زيتونات​​ "أبو بشارة"​​ المعروف بجودة​​ زيته. كل الدلائل العملية تبرهن​​ أنها حقا عجيبة، وإشارة سماوية إلى رعاية العذراء لأهل بيته، اعترافا بإيمانهم الطاهر وطاعتهم لتعاليم المسيح. وكان قد شفي ابنه من مرض خبيث يقال​​ إن عدد من يشفيهم الطب من ذلك المرض الملعون، لا يتجاوزون ربع المرضى.​​ وأن صلاتهم للعذراء والمسيح والإله في علاه قد استجيبت. وها هي الإشارة الحاسمة تجيء بدون توقع في فجر ذلك اليوم الربيعي.

 

نساء الحارة تباركن بقطع قطن رطبنها بالزيت الذي يرطب قاعدة التمثال، وكان هذا​​ برهانا لا يمكن نقضه، ويعتمد عليه​​ كمصدر إخباري موثوق لحقيقة العجيبة التي اختص الله بها جارتهم وحارتهم، وأضحى شعورا بالفخر لكل أهل الحارة، وبدأت عملية انتشار تفاصيل العجيبة، بطريقة تعجز عنها حتى الدعاية الصهيونية والإمبريالية،​​ التي تسيطر على وسائل الإعلام العالمية، كما قال​​ أحد كفار البلد الذي يسكن لحظهم السيئ في حارتهم، ويلقب ب "سمير​​ الكافر" وهو يدّعي في كل مناسبة​​ أن الصلاة هي مضيعة للوقت، ولا تخدم مطالب السكان من السلطات المسؤولة، بل تخدعهم بأوهام​​ أن الفرج سيأتي من السماء، والسماء كما يقول سمير الكافر، هي خدعة بصرية تفوقت على المنطق،​​ مما يضر بالوعي الاجتماعي​​ وتنمي الخيالات والخرافات، وكلمات من الصعب استيعابها قوت الشك باتزانه العقلي. ولكن من أين لكافر مثل سمير​​ أن يغير حقائق الإيمان ورعاية الله لأبنائه المؤمنين؟ ولعله الآن​​ أمام هذه العجيبة المؤكدة سيصمت للأبد!!

 

أصبح حديث العجيبة،​​ حديث البلد الوحيد، وبدأت تفاصيل العجيبة المثيرة تصل​​ إلى البلدات المجاورة، بل ويشاع أنه تتوارد اتصالات​​ هاتفية من خارج البلاد​​ إلى​​ الأقارب في البلد تستفسر حقيقة الخبر، وترجو تزويدها بالمعلومات الصحيحة، وأنه إذا ثبت خبر العجيبة سيأخذون أول طائرة متاحة،​​ للوصول إلى البلاد وزيارة بيت أبي​​ بشارة​​ والتبارك بزيت العذراء المقدس. وأن مصدر معلوماتهم يعتمد على ما بثته رويترز والبي بي سي وتلفزيون الجزيرة ووكالة الأنباء الفرنسية،​​ وغيرها من وسائل الإعلام الكبيرة، وأن بعض​​ وكالات الأنباء وشبكات التلفزة، أرسلت طواقم من المراسلين والمصورين​​ لتسجيل عجيبة العذراء في بيت أبي​​ بشارة المبارك من السماء.

 

أثار نشر وسائل الإعلام لخبر أولي عن عجيبة العذراء في بيت​​ "أبو بشارة"، اعتمادا علي​​ مصادر موثوقة، تستند بالتأكيد​​ إلىى روايات نساء الحارة الحاصلات على قطع قطن رطبت بزيت العذراء المبارك، هيصة كبيرة قلبت كل الحياة الرتيبة في البلد والبلدات المجاورة.

 

كثرة الاتصالات الهاتفية ذلك الصباح،​​ سببت ضغطا على شركات التلفونات، ونشأ خوف حقيقي من انهيار شبكة الاتصالات التلفونية. وغرق البريد الإلكتروني لوسائل الإعلام بكم هائل من الاتصالات والمراسلات تستفسر عن حقيقة الحدث، فنشروا إعلانات ترجو من المتصلين​​ التريث ومتابعة الأخبار على شبكاتهم التلفزيونية،​​ أو مواقعهم على الشبكة العنكبوتية وأن طواقمهم تعمل جاهدة،​​ للوصول إلى مكان الحدث لتغطيته،​​ ونقل التفاصيل الكاملة للمشاهدين.

 

الازدحام في شارع الحارة حيث منزل​​ "أبو بشارة"​​ فاق التصور، وانتشر الازدحام في الشوارع المحاذية، بل والبعيدة،​​ كما​​ شوارع البلد كلها ازدحمت وأصيبت حركة السير​​ بانسداد في الشرايين. البعض​​ يقول:​​ إنه سمع في نشرة أخبار الساعة الثامنة أن الشرطة توجهت للمواطنين​​ أن لا يدخلوا البلدة بسياراتهم، وأنها اتفقت مع شركات الباصات على زيادة عدد الباصات لنقلهم الى​​ الداخل، وأنه لا يمكن إيجاد مكان حتى لربط حمار في هذا الازدحام غير المتوقع الشديد والمجنون.

 

في تمام الساعة السادسة صباحا أُبلغ خوري الطائفة على​​ وجه السرعة عن العجيبة في بيت أبي​​ بشارة، فلم يكترث للأمر في البداية. ولكن الشماس​​ أبلغه أن المسالة حركت البلد كله​​ والمئات من كل الطوائف يتدفقون​​ إلى​​ الحارة، وبعض رجال الطائفة المحترمين تحققوا من الموضوع،​​ وأبلغوه​​ أنه على الخوري زيارة بيت أبي​​ بشارة،​​ ليتأكد بحكمته​​ أن الموضوع رباني حقا. صحيح​​ أن النساء لسن مصدرا موثوقا للمعلومات، ولكن رجال الحارة أيضا يؤكدون صحة أخبار نسائهم. لأول مرة يتفق الجانبان بدون​​ "نقر ونقير"​​ على رواية واحدة. بل وتحول الحدث إلى خبر دولي تتناقله وسائل الإعلام العربية والأجنبية، وأنه ليس دعاية صهيونية إمبريالية معادية للعرب، أو خبر انتصار وهمي لنظام عربي على العدوان الصهيوني. حتى راديو إسرائيل أذاع الخبر بدون إضافة أو تزوير أو تدخل مقص الرقيب،​​ أو​​ إضافة تجعل العجيبة​​ إنجازا للديمقراطية الإسرائيلية،​​ وتنفيذا لوعود الحكومة في المساواة بين المواطنين العرب واليهود.!!

 

سارع الخوري،​​ أمام هذه الحقائق الدامغة، وبعد​​ أن أيقن من صحة ما نقله إليه الشماس، إلى ارتداء ملابسه الكهنوتية، والتوجه​​ إلى​​ بيت أبي​​ بشارة،​​ وهالته وهو في الطريق​​ حشود​​ التجمعات أمام البيت وعلى مدخل الحارة،​​ وشلل حركة السيارات التي أغلقت الشوارع بالوقوف العشوائي، والكل يتحدث عن العجيبة.

 

أفسحوا للخوري الطريق، فسارع بخطواته شاعرا بأنه أمام حدث عظيم، وأن الجميع ينتظرون تأكيد حدوث العجيبة من مصدر روحي موثوق، وأن الله خصه بدور بالغ الأهمية قد يساهم في ترقيته من خوري بلدة صغيرة إلى مطران كبير الأهمية في إحدى المدن الكبيرة.

 

كل ما استطاع الخوري​​ أن يقوم به أمام تمثال العذراء المبللة قاعدته​​ حتى نصف​​ متر تحت القاعدة بالزيت المقدس،​​ أنه التقط قطعة قطن صغيرة رطبها بزيت العذراء،​​ شمها مرتان​​ أو أكثر، مسح بها​​ باطن​​ يده​​ وشمها​​ أيضا،​​ فأشرق وجهه بابتسامة كبيرة، صلب على وجهه ثلاث​​ مرات، وبدون مقدمات بدأ بصلاة قداس بارك​​ فيها العذراء والسيد المسيح وأباه​​ الذي في السموات، وبيت أبي​​ بشارة، الأمر الذي اعتُبر بمثابة​​ إقرار رسمي من الكنيسة لحقيقة العجيبة وأهميتها المقدسة.

 

رعى​​ أبو بشارة وأولاده الدخول إلى البيت بنظام، للتبرك بزيت العذراء،، فوفروا مئات قطع القطن الصغيرة، وصندوقا​​ لوضع التبرعات كما أمر الخوري من أجل إقامة احتفال كبير يحضره سيادة البطريرك، وربما يتحمس الحبر الأعظم بابا الفاتيكان للحضور والوقوف على العجيبة بنفسه، وهدف الاحتفال كما شرح الخوري، تكريم السيدة العذراء على إشارتها الواضحة​​ أنها لا تهمل المؤمنين الذين ضحى ابنها بحياته من أجلهم، وإنها راعيتهم وشفيعتهم عند الله.

 

ما حدث وصفته بعض الصحف بأنه أشبه​​ بهزة أرضية من العيار الثقيل، وأنه لو عاد​​ "ريختر"​​ الى الحياة لأضاف الى سلمه خمس​​ درجات جديدة لتلائم الهزة الإنسانية الهائلة،​​ التي سببتها عجيبة الزيت في بيت​​ أبي​​ بشارة.

 

امتلأت المتاجر بالزبائن الراغبين بشراء تماثيل للعذراء، أو تماثيل للعذراء وابنها المخلص​​ يسوع المسيح، أو صورا مقدسة، لتعليقها في بيوتهم تيمنا بما حدث في بيت​​ "أبو بشارة"، بل وتوجه​​ كثيرون الى الكنيسة ليبارك الخوري ما اشتروه من تماثيل وصور، ضمانا​​ للطهارة والقداسة. ويمكن القول​​ إن تماثيل العذراء أضحت أهم تجارة لعدة أشهر، فاستُوردت تماثيل العذراء من الصين الشيوعية البوذية الكافرة،​​ بواسطة​​ تجار يهود لأن سعر الصين​​ أرخص​​ أربع​​ مرات من التماثيل المصنوعة في​​ إيطاليا المسيحية، وملأوا بها السوق ولكن بأسعار تزيد عشرة أضعاف على الأقل عن تكلفة استيرادها وتوزيعها​​ على​​ المحلات. بعض الفنانين العرب واليهود استغلوا الموقف ورسموا العذراء وطبعوا رسوماتهم، وربحوا أضعافا مضاعفة عن أي لوحة فنية باعوها سابقا.

 

ابن أبي​​ بشارة البكر جاءته فكرة عبقرية، منع المراسلين من التقاط الصور داخل البيت، وقام هو نفسه بالتقاط صور ملونة للعذراء بالكاميرا البيتية، والزيت واضح حول القاعدة وتحت القاعدة وهي أهم وثيقة عن العجيبة، وطبع منها آلاف النسخ بحجم كبير، وكرر الطباعة مرات كثيرة، وبرر ذلك بالحفاظ على كرامة العذراء من التصوير التجاري. وبيعت الصور بأثمان تكفل له ولكل أفراد العائلة جولة حول العالم في أفخر القوارب البحرية.. وهذا مكرمة من السيدة العذراء بدون​​ أدنى شك.

 

آلآف دخلوا للتبرك والحصول على قطع قطن مبللة بزيت العذراء، وما بخلوا عليها بشيء، تبرعوا بالمال والذهب، وانتشرت أخبار عن شفاء العديد من المرضى بعد مسح جبينهم بقطنة​​ الزيت، مما شجع المترددون لزيارة التمثال والتبارك بزيته،​​ والحصول على قطنة مبلولة بالزيت المقدس ولسان حالهم يقول:"اذا لا تفيد لا تضر".

 

امتلأ الصندوق أمام​​ العذراء بالأموال وحلي الذهب، وأُفرغ عدة مرات، وهمس بشارة الإبن البكر لوالده​​ أنهم أولى من الخوري بما يتبرع به الناس، لأن العجيبة حصلت في بيتهم وليس في بيت الخوري أو لتماثيل العذراء في كنيسته. ولهذا شأن رباني نحن لا نعلمه.​​ إن طرق الله غير معروفة لنا نحن البشر، ويجب عدم التفريط بما يصل للعذراء من تبرعات، وإن​​ الكنيسة ليست فقيرة ليزيدوها غنىً​​ فوق​​ غنى. وإن ما طلبه الخوري، رغم قداسته واحترامه، كان متسرعا بسبب المفاجأة، وإنهم هم أهل البيت الذي خصه الله بعجيبة العذراء، على استعداد لتبني الاحتفال ومصروفاته. كما كرمتهم العذراء يكرمونها بأفضل قداس وأفضل احتفال.

 

أحد الأبناء​​ ألحّ​​ للحصول على مبلغ ليجدد سيارته. ولكن والده​​ أشار​​ عليه بالتمهل، إذ​​ ليس من المناسب الآن والآلاف من عامة الناس،​​ ورجال الدين الأفاضل يتدفقون​​ ​​ إلى​​ البيت، والحكاية ما تزال في أوجها،​​ لكي​​ يستعملوا التبرعات التي توهب للسيدة العذراء لأمورهم الشخصية، وأن الصبر مفيد في هذه الحالة.

 

الحكايات التي انتشرت بان قطعة القطن المبلولة بزيت العذراء المقدس،​​ حققت الشفاء لمرضى عجز الأطباء والمشافي​​ عن علاجهم، وما قامت به بعض الصحف والمواقع الالكترونية، بنشر​​ صور عشرات الأشخاص الذين يؤكدون​​ أن قطنة الزيت شفتهم من​​ أمراض صعبة،​​ بل وروى البعض حكاياتهم مع​​ أمراضهم العصية على​​ الشفاء،​​ وكيف اختفى المرض بعد مسح جبينهم بالزيت المريمي المقدس.​​ كل هذا أحدث تدفقا غير متوقع لزيارة بيت أبي​​ بشارة وعذرائه التي لا​​ يجف زيتها، بل وفي بعض الأحاديث​​ أن التبرع للعذراء واجب من أجل ضمان الشفاء، لأن من لم يتبرع لا يشفى مريضه.​​ فتكررت زيارات​​ كثير من الزائرين السابقين ليتبرعوا ويحصلوا على قطعة قطن تساعد في شفاء أعزائهم.

 

كان أبو بشارة كل ليلة، بعد​​ أن يستأذن العذراء، يفرغ الصندوق من الأموال وقطع الذهب والفضة وغير ذلك من الأحجار الكريمة. وقد قر رأيه​​ أن لا يسلم الخوري أي شيء. امتعض الخوري، ولكنه لم يتفوه بأي كلمة.​​ ويبدو، حسب معلومات غير مؤكدة،​​ أن الخوري بدأ بحملة مضادة لإقناع الناس​​ أن وراء حكاية العذراء والزيت​​ سرا لم يكشف بعد. "تمهلوا ولا تصدقوا الشائعات عن الشفاء من الأمراض فلا شيء​​ مثبت"، كما كان يهمس للمقربين​​ إليه.

 

مضت أيام وخف القادمون​​ للتبرك بزيت العذراء المقدس. وبدأت الحياة​​ تعود الى رتابتها السابقة، رغم​​ أن الزيارات للعذراء لم تتوقف.

 

ولكن، المجد لله في علاه، الزيت لا يتوقف، بل انتشر حول قاعدة التمثال ومن جانبيه بشكل متزايد وامتد نحو الأرض، وهو عمود​​ عقد قديم​​ لبناء​​ واسع مقسم إلى عدة غرف، والعمود نفسه مليء بالتراب الذي لا يرتوي بسهوله.​​ ضخم جدا​​ يكاد يكون متراً​​ ونصف المتر عمقه من كل جانب. والعقد لارتفاعه الكبير، أقيمت​​ ​​ فوقه​​ علية حيث تخزن مؤونة البيت، وفي وقتنا لم يعد استعمال​​ العلية لتخزين مؤونة البيت كما كان الحال​​ أيام زمان، وأصبحت العلية مخزنا لكل ما لا يستعمل يوميا. وهناك درج خشبي،​​ بلصق حائط العقد يقود إلى العلية الواسعة، التي لا ينفك ابنهم الأصغر يطالبهم بتحويل قسم منها إلى غرفة​​ له​​ للنوم، وفتح نافذة خاصة للغرفة، ولكن الحال لم تكن جيدة، لهذا المشروع، وها هو ابنهم يعود، بعد​​ أن غيرت العجيبة حالتهم المادية، ويصر أن يستقل بغرفة على قسم من علية العقد الواسعة.

 

انشغل أهل البيت كل في مشاريعه. والأب يحذرهم: "لا تنسوا السيدة العذراء. هذا خيرها الذي نزل علينا".

 

حكاية العجيبة أضحت أمرا عاديا.​​ وما عدا سمير الكافر لا يجرؤ أحد على التشكيك بحقيقتها.

 

كلما سئل أبو بشارة في نادي المتقاعدين عن آخر أخبار العذراء والزيت،​​ يتحدث بفخر​​ أن الزيت لا يتوقف بل يزداد تدفقا، وأنه عندما جدد طرش البيت، لم يطرش العمود بل حافظ عليه كما هو، لأنها مشيئة العذراء كرم الله وجهها.​​ وأنه بلل​​ كثيرا​​ من الفوط بالزيت الذي بدأ يرشح​​ على الأرض​​ أيضا، ويحتفظ بالفوط بمكان نظيف لأنها مبللة بالزيت المقدس، وأن البعض يأتي لشرائها، خاصة السياح الأجانب الذين سمعوا عن عجيبة​​ العذراء​​ في​​ بيته،​​ ولكن السعر الذي يطلبه لا يشجع​​ أبناء البلد على شراء تلك الفوط. وأن السياح لا يجادلون حول السعر.​​ وأن سعر الفوطة مع الصورة الملونة للعذراء،​​ تكفي وجبة غذاء لأهل البيت في مطعم.

 

ولكن​​ أحداً​​ لم يعرف​​ أن الوقت يخبئ لهم مفاجأة أغرب من الخيال.

 

أم بشارة صعدت​​ إلى العلية​​ ​​ تأتي​​ بحاجتها من زيت الزيتون، من خابية (الخابية​​ هي جرة كبيرة تتسع لأكثر من 50​​ إلى​​ 80 ليتراً​​ من الزيت،​​ كانت تستعمل في البيوت الفلسطينية القديمة لتحزين الزيت وما زالت بعض البيوت تستعملها).

 

تفاجأت​​ أم بشارة​​ أن الخابية فارغة حتى النصف:

 

- أبو بشارة.. الخابية​​ فارغة​​ تقريبا.

 

- يا امرأة​​ أنا ملأتها بأربعة "تنكات" حتى العنق.. لم نستعمل بعد​​ إلا نصف تنكة؟​​ 

 

-​​ إنها نصف فارغة.. أين ذهب الزيت؟

 

- الله يستر.. ربما لا ترين جيدا.. مدي يدك.

 

-​​ أنا في كامل قواي العقلية، لا تجعلني مجنونة وعمياء!​​ لا أرى زيتا إلا في القاع.

 

- هل سرق​​ زيتنا؟ هل يجوز​​ أن ما ظهر تحت تمثال العذراء هو زيتنا؟

 

تحسست أم بشارة الخابية​​ فوجدت سطحا كبيرا في مكان منخفض رطبا بالزيت.​​ وعلى أرضية العلية​​ بقعة زيت كبيرة تماما فوق العمود،​​ حيث​​ وضع تمثال السيدة العذراء​​ في داخل​​ الكوة. احتارت​​ أم بشارة​​ هل تضحك أم تبكي على ضياع مخزون الزيت؟

 

- كشفتُ​​ سر زيت العذراء يا​​ "أبو بشارة".

 

- ماذا تخرفين يا امرأة؟

 

- الخابية​​ "مسطوحة" والزيت يتسرب​​ منها ببطء إلى عمود البيت، والكوَّة التي حفرت للتمثال داخل العمود،​​ يخرج منها الزيت.

 

- إذن زيت العذراء هو زيت خابيتنا؟

 

تجمع الأولاد على صوت والديهما يتداولان حول المصيبة. قال الإبن البكر مبتسما:

 

- هذا الكلام ممنوع​​ أن يصل للناس.​​ مفهوم؟​​ سنتهم​​ أن فعلتنا بزيت العذراء مقصودة.

 

بعد تفكير قصير أثنى أبو بشارة على كلام ابنه، وأضاف:

 

- لا تظنوا​​ أن الخابية فرغت من الزيت بالصدفة؟!​​ إنها مشيئة الله،​​ هل تطنون​​ أن الله ينتج زيتا ليقدس المؤمنين به؟ هذا لا يغير شيئا من حقيقة العجيبة.​​ لو شاء الله لفاضت الخابية وأغرقت​​ أرض البيت.. ولكن حكمته أن يصل الزيت لتمثال العذراء. القصد الإلهي هنا واضح.​​ أنعم علينا بالعجيبة، وحسن أوضاعنا استجابة لصلواتنا، فليكن اسمه مباركا!!

 

 

للمشاركة

Nabil oudeh

نبيل عودة كاتب من فلسطين

Read Previous

رِحْلَتِي إلَى قَعْرِ الجَحِيمْ

Read Next

عن السخرية في عجيبة بيت أبي بشارة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *