نوارس عشق
وقلوب
بلا شواطىء
إنما لأبنائنا وأحفادنا عُرى انتماء
لا تنفصم عن مستقبل هذه الأرض
هيام ضمرة – الأردن
يسعدني ذلك الصغير المنتشي بأعوامه الخمسة، ويفاجئني احتياله بفرح عميق وهو يُبدي ذكاء عاطفياً صحياً، حيث تتكشف أولى ملامح شخصيته بوضوح ملحوظ، فيرى نفسه بسنوات عمره القليلة، أنه المحور ونجم المرحلة، حيث تدور حوله القلوب المحيطة به بلا منافس أو نظير.
فيروح يستعرض شقاوته بعفوية ودم خفيف، مزهوا بنفسه مدركا ما يجري حوله، بأن الشقاوة المحبوبة التي يمارسها وابتسامته الساحرة؟ ليست إلا لتغريك وترد ولو بمستوى جمالي أدنى.
يدفعك بعبقرية الطفولة لكي تضحك من أعماقك، وهو يعزف السعادة بأنامله الصغيرة الساحرة على أوتار قلبك، لتستنشق عبير حضوره، بدل أن يستنفر أعصابك في أوقات محنتك وضيقك.
معظم الأطفال لهم وهج طفولتهم ترفع من وجيب القلوب، كشجرة وارفة الظلال كثيفة الأغصان، تحط عليها العصافير تغرد عشقا للصباح، لا تستطيع إلا أن تقابلها بتفاعل وحنان مدروس؛ فوجودهم إلى جانبك يحملك إلى رياض مزهرة، تمنحك ثمارا حلوة الطعم والشكل بهية اللون.
الأطفال صفحة بيضاء ناصعة اللون، لا تخدشها الأنامل ولا تقاربها سنان الشوك، حلم ينبعث من بين ثناياك وتغمره رؤى مغزولة من شجن وتحنان، يمنحك من وهجه سعادة غامرة تتسلل إلى عقلك وقلبك فيزداد شدو سعادتك، ويتوجك أميرا لأجمل اللحظات وأرق المشاعر، قبل أن يطرأ ما يعيدك إلى حالك، ويشتعل ذهنك بهم بأحلامهم تفيض أملا مشرقا على درب المستقبل، فتزداد إليهم شوقا كلما غابوا، وتتلقفهم بالأحضان كلما أقبلوا إليك بحضورهم وسحر ابتسامتهم.
هذا الكائن الصغير عمراً الضئيل حجماَ، الجميل مضمونا وصورةً رائع العاطفةً، يبلسم فؤادي ببسمته الصادقة الصادرة من أعماق هذا الحفيد، بل وأحفادي قرة عيني جميعا. يتحرك لهم في داخلي فيض من الحنان حد التعلق المهووس. أحببتهم قدر ما أحببت آباءهم أبنائي ذكورا وإناثا.
هؤلاء هديتي من ربي وامتدادي من صلب جيناتي، دون أن يعنيني فارق انتمائهم الأسري، فجميعهم أحفادي وهدابا غالية على كبدي وقلبي. وسعت لهم مكانا رحبا يقيمون فيه، ليتصدروا اهتمامي ويستكملوا في الدنيا "نجاحي"، الذي يضج بالحركة ويعيدني إلى شبابي وربيع عمري.
اسمه يزن وياسمين شقيقته الوديعة، ورقيبةُ رعايتِه التي تكبره بعامين. للأسماء وقع جميل شديد التميز تستقبله أذناي ووجداني بحنين عاطفي، يفيض من قعر مشاعري بشتى الانفعالات، كالمياه تحاكي دفق نهر يجري في وجداني وفكري عكس الاتجاهات، ثم يروح يتجول حثيثا طليقا في كل خلية مني، ويحرك في كياني رجاء لن يتوقف، وهو يحثني أن أتعلق بشدة بحياتي.
هناك علاقة إنسانية وثيقة وأزلية، تشد الأحفاد خاصة إلى جديهما من ناحية الأم، وجديهما للأب ولو بدرجة أدنى قليلا، إنها أجمل وأسعد ترنيمة للطرفين تدق طبلة الأذن والعاطفة، وتحيلها نغما ترقص لوقعه قلوب شغوفة بالحنين، وبسمات عريضة لا يتسع لها الكون الفسيح.
كان عمرا مديدا انشغلنا بمسؤولياتنا تجاه آبائهم وأمهاتهم. لكن رغم متطلبات الحياة المزدحمة ومسؤولياتها، التي حكمت علينا أن نتقاسم الأدوار ونقاسمهم أعمارنا، فإن قدرا من الرغبات والأماني كنا نؤجلها، وندفع بها جانبا مع حاجتنا لها، لأن هوسا موزونا كان يشدنا إلى أبنائنا.
زيارة بيت الجدة من أكثر الأشياء إثارة التي يرغب بها دوما حفيداي. يعبران عتبة البيت فيشع في أرجائه الصخب مصحوبا بالضياء، وتمتلئ زواياه بالأصوات والحركات ، تشد عيوننا وتخفق لها قلوبنا، فالحب أن تأخذ وتعطي وتشتبك الأنظار بالأنظار.. إنها أواصر قربى الدم وربما أكثر.
نشكل لهم ملاذأ آمناً وطاقة غنية بالتوجيه والعاطفة جنبا إلى جنب، مجرد وجودنا بجانبهم يمنحهم الدعم الآمن، والتفاعل في علاقة فطرية حميمة، تتخللها البراءة بكل التلقائية والنقاء.
في الطفولة لا مجال لخاصية التفاوت الثقافي، أو الفجوة الحضارية المحكومة باختلاف الأعمار. هناك علاقة تبادل صحي قائمة بيننا وبينهم، عطاء موفور الجدوى في منح السعادة وتلقيها.
إلقاء نظرة خاطفة إلى ملامح حفيدي؟ تتراءى في أفقي مظاهر البراءة بقسماته الدقيقة، ونظراته المثيرة المعبرة، وتصرفاته التي توحي بالتربية الصحية السليمة. عيناه نجمتان تومضان ببريق الذكاء، وسط هالة من الشعر الأسود الفاحم، المسترسل حتى أعلى عنقه حيث تتقافز الخصلات.
كل حركة من حركاته، تمنحه جاذبية مشفوعة بوجيب القلب وسطوة الإعجاب، وابتسامة ساحرة تستريح على وجهه البيضاوي، وشفتيه تثيران في مهجتي أشكال الدفق العاطفي المتواصل، فيمنحني طاقة ووميضا يشيع في داخلي الدفء والنور، ويثير بي رغبة غلاّبة لاحتضانه وتقبيله في كل كان. لكن الوباء قاتله الله لم يدع لي مجالا، لأترك نفسي على هواها تفعل به ما تشاء.
عموم الأطفال يتمتعون بحاسات مرهفة، وأحاديث تلقائية مشوقة، ويتعاملون أحيانا بذكاء مفرط يستدعي البسملة بشفاعة الله، وهكذا فالأطفال ملائكة الأرض وأحبة الله وجزء من الأرواح.
من كرم الكون أن يمنحنا الاستمرار والامتداد بالأبناء والأحفاد، ومن كرم الله ونعمة الأقدار علينا أن يرزقنا المحبين الأخيار المتألقين على دروب الارتقاء، ومن كرم الزمان علينا أن يذيقنا جماليات ما يهبنا الله من عطاياه، فتزهو الدنيا حولنا بضياء يشع بالفرح الآتي غدا أو بعد غد.
"رُبَّ أرضٍ من شذىً وندىً وجراحاتٍ بقلبي عِدى
سكتت يوماً فهل سكتت؟ أجملُ التاريخِ كان غدا
واعدي لا كنتَ من غضبٍ أعرف الحب سنىً وهدى"
أجل أجمل التاريخ كان غدا. هذا الحفيد هو الغد المرتقب ويقوم على عاتق جيله المستقبل. هكذا تتألق مشاعري ويرقص قلبي لإقباله إلي، أما شقيقته فينالها قدر ليس أقل من حبي واهتمامي به.. لوضوح ذكائها ونزعة تصرفاتها النبيلة، وانفتاح عقلها بنباهة تتواءم مع سنينها القليلة.
إلا أن يزن يمتاز بشخصية متفردة لا تستنسخ ولا تقلد، يصنع لنفسه شخصية مغايرة كلياً عن والديه وشقيقته، يتركز بأسلوب التعامل أحيانا بمصلحة طفولية، لا ترتقي إلا إلى غايات بسيطة.
رغبته وإلحاحه المتكرر بزيارة بيت الجدة في أوقات متقاربة، وملكية الاستئثار باهتمام وعاطفة خالته لنفسه دون سواه. لكن التحري والولوج إلى قلبه ونواياه؟ تكتشف فيه حنانا من نوع شديد العذوبة والصفاء، وهو يبادر بتقديم العون لوالدته بترتيب غرفته، وتنظيفها دون أن يتلقى الأوامر بذلك. في داخله رغبة لمساعدة والدته بعمله الايجابي النافع لأن رضاها أقصى غاياته.
وتحضرني في هذا المقام كلمات الصديقة الشاعرة ريما البرغوثي.. إذ تقول في الشوق إنه من أصفى وأعذب الينابيع التي تروي قلوبا ظمأى لسعادة الحب غايتنا وحاجتنا الأخيرة، التي تنتشل نفوسنا من زحمة الحياة القاسية المضطربة حيث يتضاعف فيها شتات الروح أمام نكد الأحداث:
أشتاقُ نسمةً طيبةٍ تجتاحُني ** صوتاً يُغازلُ وحدتي صداحا
أبغي سنابلَ كالضفائرِ جدِّلت * مثلَ النُّضارِ تُغازلُ الأرواحا
أشتاق دفئا في الشتاتِ يَضمني *** عقلاً شغوفاً نيراً لماحا
أحتاجُ ملئَ الخافقين أحبةً ** ليسوا من الأطيافِ أو أشباحا
ما أروع سجايا أحبة تتجسد سليقتهم فينا، رضاً يملأ النفس شدواً عذبا شجياً، يُغلفون أفئدتنا بحبهم وميلهم إلينا لا يُخالطه نكد ولا انفعال، فهم الترنيمة لحياتنا يمنحوننا الرغبة بالعيش، فلا نعترض على قدرنا فيهم مما رزقنا الله، ولا نتخاذل في توفير حياة تليق للعيش بهم ولأجلهم، فالله جعل بالتناسل والتوارث سنة في خلقه، للحفاظ على النوع الإنساني المأمور بإعمار الكون.
والمعروف في المروي والمأثور من الأحاديث، عن حب النبي محمد صلى الله عليه وسلم لحفيديه الحسن والحسين وملاعبته لهما وحملهما على ظهره الشريف، وهو بذلك قدوة المسلمين، والحقيقة أن المشاعر الانسانية تلقائية الميل، لمحبة الأحفاد وقبلهم حب الأبناء.
في لحظات سريعة للتعبير عن فرحه لتواجده معنا، يقلب صغيرنا يزن الأجواء التي ملت سكونها وهدوءها إلى سعادة عامرة مليئة بالصخب والأصوات، تعزز ابتسامنا بفرح يغمره ويغمرنا معه، وهو يثير جوا من الإلفة فواحا يعطر لحظاتنا بروعة الالتقاء، ويقوم بممارسات مسلية ونبيهة ترفع وتيرة الحب للأحفاد والأبناء، فننطلق لوهجها في موجة من سعادة الضحك والفرح، وعفوية الطفولة الطاهرة.. تفيض بلسما وشعورا ناجعا للفكر والأرواح بسطوة متعة الإرتياح.
من كرم الله علينا أن يمنحنا من فضائله ما يوفر لنا السعادة والهناء، ويضيء ليالينا بالفرح وسط أفراد أسرنا نستمرىء الود الصافي والتفاهم، ومن كرم الأقدار علينا أن تصنع لنا من الحظوظ أجملها، ومن الأحداث أجلها، ومن المشاعر عوالم جميلة للحب والتماسك والارتقاء.
إنه ارتداد عميق ينعكس في عيون الأطفال. وعلى ثغورهم تضيء قدرة الله في الخلق. هم جذور شجرة زيتون ضاربة في أعماق الأرض. "لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ" ويستمر التين والزيتون بالعطاء ويتعاقب البشر، ما استمرت الحياة وما استمر خلق الله في الأجيال.
5 Comments
ثمّة أقلام… يطيب بها المداد
ويتعطر متن الحرف والإسناد
كقلمك المميز استاذتي هيام
فكم لهذه الكلمات من جمال
زادك الله من فضله
الأستاذة القديرة هيام ضمرة
من الجميل أن يسرق منك الأطفال هذا الوقت، فلعلنا نحتاجهم أكثر مما هم بحاجة إلينا، نحتاج إلى احتوائهم وصدق مشاعرهم، لنشعر معهم بالأمان يغمرنا كلما احتضنا أجسادهم الصغيرة. عالم الطفولة يجدد طاقتنا المنهكة ونحن نراهم يتفتحون كبراعم زهر وردية نضرة تنعش الروح وتسعد القلب.
شكرا لمشاركتنا مشاعرك الصافية الصادرة ن قلب حنون محب.
وأنا أتوجه إليك في تعقيبى على نوارس عشقٍ وقلوبٌ بلا شواطىء؟ وجدتني أستغرق في الحكي وأنحرف بلا رغبة مني نحو منعطف خطر، وأنا أتحدث عن الفساد وخراب البصرة. وقلت لنفسي: تأدب وصحح يا أخوت فالبصرة لا زالت تمتلىء بالمحاكم والسجون. وواحد منها شديد القرب من سكني، فلعنت الشيطان وَسَكَّرْتُ تُمِّي.
خربت الدني وما من أحد لم يزنِ بنا في الداخل والخارج، واندلعت الحرب الروسية وميشال سماحة بعدو بالحبس.
لكنني أعدك أن أعود إلى رشدي في تهذيب وصياغة التعقيب، فلا أتعرض للمساءلة ولا أخسر ما بذلته من مجهود، ما دمت مقتنعا ومؤمنا بكل ما قلته.. ثم أنشره كمادة مستقلة بعيدا من المساءلة والتشهير. أنت يا أم هيثم نفحة عطر.. ولهفة شوق.. وبسمة طفل.. وخيمة أمن للنفوس.. وأنت على راسي.. وفي خاطري وفكري.
حبيبتي إيناس ثابت
كل له من اسمه نصيب؛ وأنت نلت بلا شك النصيب الأوفر من اسمك. كطفل يفرح بالهدية فرحت حينما قرأت تعليقك، فأنت الأديبة الأريبة التي أعرف من صفاتها الأجمل، وبهاء مرورك أكّدَ لي كم تغيبني الأحداث المهمة وأعباء الحياة. ربما حساسيتي المفرطة وغلبة عاطفتي، تشغلني أكثر من غيري بقضايا الحياة ومسؤولياتها.
حب الأحفاد يملك عليّ عاطفتي ويستحكم بعقلي، فما بالك حين يكون الحب متبادلا بقوة بين الطرفين. قبل اثني عشر عاماً حاكيت بحر الخليج العربي، وأنا أطل من شرفتي على مشارفه في مدينة الكويت، وكنت قد عشت في هذه المدينة عشرين عاما، وسجلت حواراُ “مؤثرا” لاستقبالي أول أحفادي وأنا في أشد الشوق لاستقباله.
لم يكن قد أكمل ثمانية أشهر من عمر خداجه في أحشاء أمه، حتى أتى للحياة صغيرا مستعجلاً وضعيفا، فلم يتجاوز وزنة الكيلو وخمسة وسبعين غراما قبل اكتمال تخليقه، وكانت الحاضنة ملاذه الأول حتى أصبح بوزن الكيلوين، وقد احتاج أيضا لجراحة بعد استغنائه عن الحاضنة، وهو بعمر العشرين يوما ووزنه كوزن دجاجة، ولقد تعذب قلبي مع هذا الطفل.
حينما قرأ مقالتي الدكتور خليفة، رئيس أحد أقسام جامعة البحرين، وهو رئيس رابطة الأدب الاسلامي العالمية بالبحرين، وكنت حينها عضو هيئة إدارية في ذات الرابطة العالمية في فرع الأردن. وهكذا راح د. خليفة يكبِّر تأثراً واعجابا قائلا: السيدة أم هيثم كتلة من الأمومة النادرة .
حب الأحفاد هو بالفعل استكمال فطري لحب الأبناء، لا أستطيع أن أجد فارقا في هذه العاطفة الجياشة.. و(يزن) الطفل الحالي يحتاج لقولٍ كثيرٍ وأنا أتحدث عن قدراته، وهو يخلق لنا جواً يفيض بالسعادة لفرط ذكائه وخفة دمه ودماثة خلقه وسلامة تربيته. نقضي أياماً نتلهف شوقاً على أحر من الجمر بانتظار زيارته، وأخشى يوما تأتي فيه ابنتي لتقول إنهم عائدون إلى دبي حيث مصالح زوجها، فقلبي تعلق بهذا الطفل وشقيقته لجمال روحيهما وجمال حضورهما.
لك مني يا عزيزتي ولسائر المحبين أحر دعاء لكم جميعا للاستفادة بالقدر الأكبر من هذه السعادة ،لأنها حقا لا تعوض ولا تعادلها إلا فرحنا بالأبناء أنفسهم.. ربي يحفظكم ويحفظ أحبتكم.
(أنت يا أم هيثم نفحة عطر.. ولهفة شوق.. وبسمة طفل.. وخيمة أمن للنفوس.. وأنت على راسي.. وفي خاطري وفكري.)
أتمنى لو أنني أستطيع أن أجد كلمة شكر وعرفان، تليق بقامتك أستاذنا الكبير ابراهيم يوسف.. فكرم تعابيرك تسابقك الخطى دوما بالحضور، وتعطر انسياب السطور لما فيها من رقي وذوق رفيع ومشاعر صادقة.. فلك شديد احترامي وعظيم امتناني لقدرك العالي