لا شفاعةَ لابنةِ الوزيرْ

في الليسيه

لا شفاعةَ​​ لابنةِ​​ الوزيرْ

 

إبراهيم يوسف​​ ​​ لبنان

 

C:\Users\ibrah\Desktop\thumbnail_1202791496_1ac7bb2f44_o.jpg

 

..​​ وأمّا​​ مدرّسّ​​ اللغة الفرنسية

​​ الذي تعلّمتُ على يديه يا طيَّب الله مثواه..؟

​​ فكان تمادياً في عقابنا وتزكية​​ من​​ أهلينا

يصفعُنا على وجوهنا،​​ ولا يكتفي..؟

 

فيستخدمُ​​ ​​ حينما​​ "لا تدعو​​ الحاجة"​​ 

عصاً يختارُها من شجرِ الرُمّان

​​ عصاً​​ بالغة​​ العقدِ يلهبُ بها أصابعَ أيدينا

​​ فتفقدُ​​ الإحساسَ​​ من شدة الوجع​​ 

وفعل​​ البرد​​ المقبل من الثلج في صنين​​ 

 

 بينما كنتُ أنافقُ لأهلي في طفولتي

عن اهتمامي​​ وشدّة محبّتي لمدرستي​​ 

وضغينتي​​ المُبيَّتة

​​ "لمجدِه​​ ورمزِه وأنا أردّدُ​​ النشيد​​ الوطنيّ"

 

ولا زلتُ أنافقُ حتى اللحظة

​​ أن لبنان بلدٌ عظيمٌ بحكّامِه​​ وأهليه..!​​ 

​​ وإمعاناً منّي

​​ في النفاقِ​​ والخِسّة​​ والتّدليس..​​ ويكفي​​ 

 

​​ رحتُ​​ بفعل​​ خيبتي​​ وإحباطي،​​ والفساد المستشري

أستخدمُ في​​ وجوههم​​ "وسطى​​ أباخسي"

بتعبيرِ أخينا من المغرب عبد الجليل لعميري

 

لأن​​ في​​ هذه​​ الحركة​​ طعمُ​​ الغواية

​​ ولم​​ تُعَدْ​​ مَهانةً​​ لمن​​ أكلوا​​ حقّي​​ وداسوا​​ كرامتي​​ 

من طأطأ..​​ للسلام عليكم

​​ ومن​​ مرتشٍ​​ وفاسد وخائن​​ ومرهون..​​ ومن​​ يلي

 

انتهى الأمر؛ وأغلِقتْ​​ بوابة افتحْ​​ يا سمسم. كانت​​ تسكنُ​​ خلفَها أماني الأطفال الذهبيّة،​​ وتركنُ​​ في​​ إحدى​​ زواياها عربة تجرُّها أربعة خيولٍ مطهمة​​ بيضاء. العربة مِلْكُ​​ ساحرةٍ​​ تحقِّقُ بضربة واحدة من عصاها مستحيلَ​​ الأمنيات، كهدايا الميلادِ​​ للأطفالِ​​ من سائرِ​​ الأشكالِ​​ والأحجامِ​​ والألوان، تحملُها​​ عبرَ​​ المدخنة​​ إلى القلوبِ​​ الحالمة طيلة​​ الليل.​​ 

 

ببساطة​​ تلك هي​​ أحلامُ​​ الطفولة​​ العذبة. أما وقد​​ تغيَّرَت​​ أساليب التربية،​​ فاختفى​​ العقاب​​ بالعصا​​ وتبدَّلت أساليب التعليم،​​ وألوان​​ الكتب ورائحة الأوراق العتيقة، ولم تكتفِ​​ كتب اليوم بالصور​​ الملونة​​ الجذابة فحسب؟​​ بل​​ اسْتُبْدِلت​​ صورُ​​ الكتبِ​​ بدمىً​​ تتحركُ​​ على الشاشات​​ المُتنوّعة،​​ تسلبُ​​ عقولَ​​ الأطفال​​ وتشغلُ​​ فكرَ​​ الصغار​​ والكبارِ​​ في آن معا.​​ 

 

أرأيتِ​​ يا صديقتي​​ كيف صارتِ​​ اللعبةُ​​ أهون​​ ألفَ​​ مرَّة​​ تغيَّرتْ​​ سبلُ​​ الحياة​​ بفعلِ​​ العجلة​​ وثورةِ​​ العصر،​​ ونحن نركضُ​​ وتنقطعُ​​ أنفاسُنا​​ من شدَّةِ​​ العدو​​ صوبَ​​ سرابٍ،​​ لا ندري​​ متى ينتهي وأين​​ نحطُّ​​ الرحال؟​​ وخطرتْ​​ لي​​ من بعضِ​​ الجوانب،​​ نملة شوقي​​ وأنا أستجلي ديوانه، حينما​​ هالتْها هيبةُ​​ المُقَطَّم يبدو مريعاً​​ لعينيها من بعيد؛ فتسألُ​​ نفسَها: "ليتَ​​ شعري كيف أنجو إن هوى​​ هذا وأسلم".!؟ لتقعَ​​ من خوفها​​ في​​ شِبْرِ​​ ماءٍ​​ على الطريقِ​​ وتغرق".​​ 

 

وأستاذُ التاريخ في المدرسة العلمانية الفرنسية​​ كان قد طلبَ​​ من​​ تلامذة​​ صفِّه، تحضيرَ أنفسِهم بعد استراحةٍ قصيرة في الملعب، لاختبارٍ يجريه لهم في مادّته. والدرسُ موضوعُ الاختبار..؟ كان لا يقلُّ عن خمس عشرة صفحة، من ثلاثةِ​​ فصولٍ​​ في التّاريخ الفرنسي المفروض عليهم​​ "قهرا"، وكان قد شرحَها لهم في اليوم السَّابق.

 

ولمّا لم يكنْ​​ قد توَّفرَ​​ للطلاّبِ​​ ما يكفي من الوقت، لمطالعةِ​​ هذه الصفحاتِ​​ الطويلة وحفظِها..؟​​ فقد اتفقوا فيما بينهم خلالَ الفرصةِ​​ القصيرةِ​​ في الملعب، بالتّمردِ​​ وإعلانِ العصيانِ على​​ الأستاذ وعدم​​ إجراءِ الاختبار. وحينما عادوا إلى الصّف..؟ طلبَ إليهم أن يحضِّرَ كلّ واحدٍ منهم، قلماً​​ وورقة لإجراءِ الاختبار..؟ لكنَّ أحداً من الطلاب لم يتحركْ أو يستجبْ للطلب.​​ وهكذا​​ كرَّرَ أمرَه للمرة الثانية والثالثة، والطلاب لم يتحركوا وهم يلتزمون الصَّمت.

 

لكنَّ​​ السيّد "بوڠار" وهذا اسمُه،​​ توجَّهَ​​ إلى​​ العريف​​ مسؤولِ الصّف:​​ ليقفَ​​ ويعلنَ​​ عن نفسِه،​​ ويطلعَه على​​ دواعي​​ وملابساتِ​​ امتناعِهم عن إجراءِ الاختبار؟ وبوڠار هذا كانَ​​ محارباً قديماً في الجيش الفرنسي،​​ لا يبتسمُ​​ للرّغيف السّاخن،​​ فيبدو متجهِّمَ​​ الوجهِ​​ مُسْتَنْفَرَ​​ الخاطر​​ في معظم الأحوال.​​ وهو إلى ذلك​​ كان من المشاركين​​ في كثيرٍ من حروبِ بلادِه، ولم يكنْ ليقولَ​​ لطلابِه قرأتُ كذا أو سمعتُ كذا..؟ بل كانَ​​ يقولُ لهم:​​ هذا ما شهدتُه​​ بنفسي في حربِ العلمين​​ مثلا. وأن الجنود العرب يومَها ممن كانوا بإمرتي، "كانوا" من​​ أصلب​​ وأشدِّ المقاتلين الشجعان.

​​ 

هكذا وقفَ الطالبُ عريفُ​​ الصّف، ليشرحَ للأستاذ بأنَّ الدرسَ طويلٌ​​ للغاية، ولم يمضِ عليه إلاّ​​ بعض​​ يومٍ​​ وليلة لم تكنْ​​ كافية​​ للمراجعة وحفظِ الفصولِ الثلاثة، بالإضافةِ​​ إلى​​ أنّ الدرس لم يكنْ​​ باللغة العربية ويتناول تاريخ فرنسا، ونحنُ​​ كما قالَ​​ الطالب ليستْ​​ لدينا القدرة الكافية، لتجاوزِ​​ هذه الصعوبات في​​ يومٍ..​​ وليلةِ​​ درسٍ​​ واحدة.!​​ 

 

وَرَدَّ بوڠار على الطالب،​​ بكثيرٍ من الإصرارِ والحزم، والتأكيد​​ بأنّه برنامجُ المدرسة. ومن لم يكنْ​​ مؤهلاً​​ أو يجدْ​​ في نفسَه الكفاءة لمواكبةِ البرنامجِ​​ المُقرّر..؟ فليفتشْ عن مدرسة​​ بديلة​​ أهون،​​ تراعي مستواه​​ العلمي​​ وتتوافرُ​​ فيها الإمكانات التي تناسبه.​​ وهكذا​​ خَلُصَ​​ الأمرُ​​ بالطالب بعد​​ نقاشٍ​​ مقتَضَبٍ​​ وقصير،​​ ليردَّ​​ بدورِه​​ بتحدٍ​​ وحزمٍ ويقولَ للأستاذ: ألا ترى معي أنّه من الظلمِ​​ والإجحافِ بحقِّنا​​ وعددُنا ثلاثونَ​​ طالباً..؟ أن نفتشَ عن العديد​​ من​​ المدارس​​ تتناسبُ​​ مع أوضاعِ​​ كلِّ​​ واحدٍ​​ منّا.! أليسَ​​ من المنطق​​ أن تفتشَ سيادتُك عن مدرسةٍ​​ تعلِّم فيها بمفردك.!؟​​ 

 

هذا الجانب المضيء من ديمقراطية​​ ڤولتير،​​ ومعظم​​ كتّاب الغرب​​ ومفكريه،​​ وهذه​​ الحكاية​​ التي​​ نقلها لي​​ شاهدٌ​​ في الصف،​​ زميلُ​​ ابني أيامَ​​ البكالوريا.​​ تخرَّجَ​​ معه من المدرسة​​ إيّاها،​​ وامتهنا​​ اختصاصين مختلفين ولا زالا على​​ مودَّة​​ وتواصل.​​ وأخبرني​​ أن صبيَّة​​ مزهوة​​ بمالها​​ وجمالها؛​​ كانت تثيرُ​​ صخباً​​ حولها​​ أينما وُجِدَتْ،​​ وقد​​ أشاعتِ​​ الفوضى​​ مرةً​​ وعطَّلتِ​​ الدّرسَ​​ في الصف، حينما طالبَها المُدَرّس​​ أن تغادرَ​​ حصَّته​​ بلا نقاش، وخطرَ​​ في بالها ولم لا!؟ أن تنتقمَ​​ من شوقي​​ وقمْ​​ للمعلِّمِ..؟​​ لتصفعَ​​ أستاذها​​ بشدةٍ​​ على وجهِه، وهي تغادرُ​​ الصف​​ فلا ترجعُ​​ إليه​​ أبدا.​​ 

 

غادرتِ​​ الصفَّ​​ وفشِلتْ​​ سلطةُ​​ أبيها، في إعادتها​​ إلى المدرسة​​ بعد محاولاتٍ​​ متكررة، حينما​​ اجتمعتِ​​ الإدارةُ​​ على عجلٍ​​ لتتّخذَ​​ قراراً​​ مُلزِماً​​ لا رجوع​​ عنه..؟​​ يقضي بطردِ​​ الفتاةِ​​ فوراً​​ من المدرسة،​​ ويرفضُ​​ مختلفَ​​ التبريرات​​ وأشكالِ​​ الاعتذار،​​ لتخرجَ​​ ابنةُ​​ الوزيرِ​​ مطرودةً​​ بلا شفاعة،​​ وتفتشَ​​ عن مدرسةٍ جديدة بدلا من​​ بوڠار.

 

وأخبرني​​ ونحن نلتقي​​ في إحدى المناسبات؟ أن بوڠار المحاربُ​​ القديم​​ وأستاذُ​​ التاريخ،​​ أقامَ​​ بعد التقاعدِ​​ في لبنان​​ وأنه للأسف،​​ أنهى حياتَه​​ ورحل​​ عن الدنيا​​ باختياره، حينما أقدم على انتحار​​ لم يكنْ​​ متوقعاً​​ على الإطلاق.

 

C:\Users\ibrah\Desktop\download.jpg

 

والليسيه​​ هذا​​ الصرح التربويّ​​ المجيد؟ بات في قبضة​​ متمولين​​ من أصحاب النّفوذ، اشتروه​​ بمالٍ​​ سياسي​​ نظيف،​​ وشهدَ​​ جوارُه احتجاجاتٍ​​ واسعة، لكي لا يباعَ​​ من المالكين الجُدد،​​ ولا​​ يُحَوَّل​​ إلى مركزٍ​​ تجاريّ​​ يتفوَّقُ​​ على المتاجر في​​ لندن وباريس.​​ ولئن كان من حقِّهم أن يتصرفوا بالعقار وفق مصالحِهم؟ فمن حقِّي أيضاً​​ أعتبار المدرسة أفضل من​​ الحانوت..!​​ هذا​​ باختصار​​ بالغ​​ يا صديقتي،​​ فارقُ​​ التعاطي​​ في التربية​​ والتعليم​​ بين الأمسِ​​ واليوم.​​ 


بعض الروابط إلى​​ المواقع التي نشر فيها​​ النص:

 

http://arabvoice.com/88819/في-الليسيه-لا-شفاعةَ-لابنةِ-الوزيرْ-بق/

http://adenobserver.com/read-news/36168/في-الليسيه-لا-شفاعةَ-لابنةِ-الوزيرْ

http://assanabel.net/archives/2428

http://www.almothaqaf.com/a/b3d-2/933433

https://thakafamag.com/?p=19819

https://elfikr.org/في-الليسيه-لا-شفاعةَ-لابنةِ-الوزيرْ/

https://mdoroobadab.blogspot.com/2018/12/blog-post_607.html

http://www.civicegypt.org/?p=78810

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

رشدي كَسرَ مزرابَ العين وقضى على سياسةِ الحوار

Read Next

ذهب/2022: تحفة سينمائية “صحراوية” تطرح اشكالية الجشع والنجاة والغدر

6 Comments

  • الأستاذ الصديق العزيز إبراهيم يوسف

    “بين الامس واليوم”… لم يتغير التعليم وحده وحسب، تغيرت أشياء كثيرة. ورغم صعوبة الأمس البسيط، يبقى أكثر بياضا ونقاء…وأكثر قيما وإنسانية من اليوم.

    رمضان كريم..كل عام وأنتم والروافد وجميع القراء والكتاب بألف خير.

  • احسنت استاذي بارك الله فيك
    رمضان كريم للجميع

  • لسنا “بوغار” .. فننهزم وننتحر بعد صفعة واحدة
    أو ربما صفعات كثيرة
    تلقينا صفعات لا تحصى من الدنيا
    وبعض من كانوا حولنا.. ولا زلنا على قيد الحياة

    يخليك صديقي إبراهيم في ضوء موقع الروافد
    خالص محبتي وأحلى أمنياتي.. كن دوما بخير

  • لا شفاعة لنا جميعا.. إلاّ بحول الله وقوته
    ممنون لطفك خيِّ ماهر.. رمضان كريم

  • عاشقة الأدب
    لو كانت الشجاعة وقوة التحمل من فعل أيدينا؟ لما هان علينا يا صديقتي الضعف والخزي والهوان. شكرا لك على مرورك الكريم والمشاركة الطيبة. رمضان كريم.. يسعد صباحك يا رب. أنت من المحبين ممن يتحملون تقصيري.

  • العزيزة إيناس

    بين الأمس واليوم والغد، لم تتغير ولن تتغير محبتك
    وعواطفك معي والاحترام الأكيد المتبادل
    وكل ما كان بالأمس أفضل وأكثر أمانا من المتوقع الآتي
    لا سيما من كان مثلي قد بلغ مرحلة متقدمه من عمره
    رمضان كريم يسعد صباحك… وكل أوقاتك.. ويقويك

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *