الصيّاد.. وابنةُ ملكِ البحر

 

الصيّاد.. وابنةُ ملكِ البحر

 

​​ "من أساطير اليابان"​​ القديمة

اختار النص​​ من أرشيف الروافد​​ 

وَدَقَّقَهُ للنشر​​ من جديد

​​ د. عبدالله ابن الأستاذ إبراهيم

 

 

أين ما يُدعى ظلاماً يا​​ رفيقَ​​ الليل أينـا؟

إنّ​​ نـور الله في القلـــــب وهـذا ما أراه

 

​​ لو​​ أرَدْتَ السِّرَّ..؟​​ 

فاسأل عنه أزهارَ​​ الخميلة..​​ 

عمرُها يومٌ

​​ وتحيا اليوم حتّى منتهاه

مرسي جميل عزيز

 

إبراهيم يوسف​​ ​​ لبنان

 

 

الصياد وابنة ملك البحر

 

 

 

إِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ

​​ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون

"سورة الحج​​ 47"

 

ولو انَّ​​ الموتَ​​ كان​​ جزءاً

من​​ دوران​​ عجلة الدّنيا

كالحب​​ والحياة​​ والزواج​​ والمرض

​​ والغضب​​ والأمل​​ والسكينة والصخب،​​ والولادة

ثم​​ الموت؛​​ فالقيامة​​ من جديد،​​ 

لكن الخوف الحقيقي؟؟

 

أن​​ يأتيَ​​ يومٌ​​ ينتصرُ فيه​​ الإنسانُ

على الموت

وتستمرُّ​​ به الحياة إلى​​ الأبد.

فيواجه​​ محنة​​ جديدة​​ في عمره​​ 

من​​ ​​ محن الزمان الطويلة

​​ التي لا تنتهي أبدا​​ 

​​ إلا بقول أبي نواس​​ "توأم​​ الخيّام":

 

 

وداوني​​ بالموت..​​ بالذي كان​​ هو​​ الداءُ

فيغدو الموت​​ خلاصاً

​​ من مآسي البقاء

​​ والعيش الطويل الذي​​ ​​ يستمرُّ إلى الأبد​​ 

 

"الحياة كما يراها سام"..؟​​ فيلمٌ​​ وثائقيٌ​​ أنجزَه​​ سام​​ پيرنز قبلَ​​ أن​​ "يرحل".​​ ماتَ​​ شيخاً​​ كأنّه في التسعين.. وفي الحقيقة​​ لم​​ يكنْ​​ قد​​ تعدى​​ عُمْرَ​​ المراهقة​​ بعدُ،​​ إلاَّ بقليل. ماتَ​​ شاباً​​ في ملامحِ​​ إنسانٍ​​ عجوز.. لكنّه​​ ماتَ​​ مبتسماً​​ وفي قلبِه​​ إقبالٌ​​ على الدنيا​​ وشغفٌ​​ بالعيش​​ الطويل.​​ قضى​​ بسببِ​​ مضاعفاتٍ​​ عاناها من​​ مرضٍ​​ وراثيٍّ​​ ​​ نادر​​ "Hutchinson​​ Gilford"​​ ​​ لا​​ يصيبُ​​ إلاّ​​ واحداً​​ من ثمانية ملايين.​​ طوى​​ الرجلُ​​ تسعينَ​​ عاماً​​ بأقلَّ​​ من عقدينِ​​ من الزمن، وقالَ​​ قبلَ​​ أن يلفظَ​​ أنفاسَه​​ الأخيرة؛​​ أو​​ "يفتحَ​​ الصندوق؟!!": واجهتُ​​ كثيراً​​ من العقباتِ​​ والمصاعبِ​​ والقسوة والألم​​ في حياتي.. لكنّني لا أريدُ​​ أن يشعرَ​​ أو يشفق​​ الآخرون بالحزنِ​​ على​​ حالي.

 

 

 

https://encrypted-tbn2.gstatic.com/images?q=tbn:ANd9GcSQe4gi-868M9yf09CCAYHoSp3h41Vg_AisDLWsQAetoWlyAPL9Rg

 

 

 

 

 

وعندما​​ قرأتُ​​ خبرَ وفاة سام​​ پيرنز​​ في الصُّحف؟​​ أشفقتُ على​​ حالي؛​​ وأحسستُ بفيضٍ​​ من​​ المشاعر المرتبكة المتناقضة كالحب​​ ​​ والقسوة​​ والموت​​ والغضب​​ والظلم​​ والمرارة​​ ​​ تجتاحني​​ كلها​​ وتحملني​​ إلى "سام"​​ پيرنز أصل​​ الحكاية​​ أو فرعها​​ لا فرق..​​ الصبيِّ​​ الياباني​​ العجوز،​​ وخطرتْ لي​​ أسطورة​​ أوراشيما​​ اليابانية​​ عن​​ الفتى"الصيادِ​​ وابنة​​ ملكِ البحر"​​ وكيف أعاد​​ توفيق الحكيم​​ صياغتها​​ بلغة فلسفية راقية​​ "ومبتكرة".​​ ثم​​ تذكرتُ كيف أعاد​​ "راسين"​​ كتابة​​ "أندروماك"​​ من أساطير اليونان​​ القديمة​​ وفق منظوره؛​​ وتوفيق الحكيم​​ نفسه،​​ كان قد​​ أعاد كتابة بجماليون​​ من​​ أجمل الأساطير.​​ أما​​ الحكاية​​ التي أكتبها بخجل​​ شديد​​ وتواضع​​ أشد - بالمقارنة، فإنّها حكاية​​ خصَّصْتُها​​ لمن يشاء​​ من القراء..​​ كباراً وصغاراً​​ تكريماً لذكرى "سام"، الإنسانِ​​ الطفل،​​ الذي تقمَّصَ​​ قبل رحيله​​ أسطورةَ​​ الرحيل السريع​​ .​​ 

 

أسرتني​​ بحق​​ الحكاية الأسطورة، فلم أتمكنْ​​ إلاّ أن​​ أتعاطفَ​​ مع​​ "سام"،​​ ​​ صاحب​​ الحظ​​ المنكود،​​ لما أصابه من​​ ​​ السوءِ​​ وأن أحزن​​ لحالِه​​ وأحوالِ​​ من يواجهون​​ في حياتِهم سوءَ​​ حظِّه​​ والظروف التي تحيط به.​​ 

 

كان​​ سام​​ إنساناً​​ طاهراً​​ ونبيلاً​​ يستحقُ​​ أن يعيش​​ أكثر،​​ ويكفيهِ​​ فخراً​​ أنَّه أمضى​​ عمرَه​​ القصير​​ بشجاعةٍ​​ نادرة​​ وصبرٍ​​ جميل..!​​ وهكذا..​​ أرجو​​ المعذرة​​ إن​​ أساءت​​ إليكم​​ الصورة المرفقة​​ بالنص؟​​ وأتمنى أن ترحموه حيثما يرقد،​​ فلا​​ تسوؤكم صورتُه​​ ​​ لئلاّ​​ تؤلموه أو​​ تَجْرَحُوهْ.

 

ذات مرة​​ في ذلك الزمن​​ المغرق​​ ​​ من عمر​​ التاريخ..؟​​ ،​​ خرجَ​​ "أوراشيما تارو"​​ الفتى الصيّاد​​ بقاربِه​​ وأدواتِ​​ صيدِه،​​ وأوغل​​ بعيداً​​ عن الشاطىء​​ متفائلاً​​ بيومٍ مُوَفّق وصيْدٍ وفير،​​ فألقى​​ شباكَه​​ في​​ بحرٍ​​ ساكن​​ كالزّيت، أو كطفلٍ​​ يغطُّ في​​ نومٍ​​ عميق،​​ وراحَ​​ ينتظر..​​ انتظرَ​​ معظمَ​​ ساعاتِ​​ النهار.​​ انقضى يومُه​​ وأقبلَ​​ العصرُ​​ ولمّا​​ يظفرْ​​ بعدُ​​ بصيد​​ قليل.​​ كانَ​​ يشعرُ​​ بالخيبةِ​​ والمرارة والأحزان​​ وهو​​ يسحبُ​​ شباكَه​​ استعداداً​​ للعودة إلى الشاطىء من جديد. عودة غير موفقة بلا ريب،​​ حينما​​ أبصرَ​​ سلحفاةً​​ عالقةً​​ في الشباك..؟​​ ولمَّا كانتِ​​ السلاحفُ​​ مقدَّسةً​​ عندَ​​ ملكِ​​ البحر،​​ تعيشُ​​ ألفَ​​ عام ويقولونَ:​​ ​​ ربما​​ أطول​​ ،​​ فقد​​ حرَّمَ​​ على نفسِه​​ أن يقتلها​​ ويسلبَها​​ عمرَها​​ الطويل..​​ ولو على حسابِ​​ رزقِه وقوت​​ عياله​​ الذين ينتظرون عودته بصيدٍ وفير.​​ 

 

هكذا​​ أشفقَ​​ الصيادُ​​ أوراشيما​​ على السلحفاة،​​ فرفعَها​​ برفقٍ​​ بين يديه..​​ تأملّها​​ طويلا​​ بعيون مليئة بالدموع،​​ ثم​​ أعادَها​​ إلى البحر​​ بعنايةِ​​ الطفلِ​​ الرَّضيع.​​ توقفتِ السلحفاة​​ هنيهة​​ قبل أن تغوص في​​ الأعماق،​​ كأنّما​​ لتشكرَه على​​ عنايته​​ ووداعتِه​​ وطيب​​ قلبه​​ وحسن صنيعه..ثم​​ حرَّكتْ​​ زعانفَها وغاصتْ​​ من جديد​​ في​​ عمق المحيط.​​ هكذا​​ لمَّ​​ الفتى الصيّادُ​​ شباكَه​​ بقلب خائب ونفسٍ​​ حزينة​​ وقد​​ آلمَه​​ أن​​ يعودَ​​ إلى​​ زوجتِه​​ وأطفالِه​​ خائباً،​​ خاليَ اليدينِ من​​ السَّمك​​ والقوت.​​ ​​ ​​ 

​​ 

كانتِ​​ الشمسُ​​ ترسلُ​​ أشعتَها​​ المُحتَضِرَة​​ وتوشكُ على المغيب، والقاربُ​​ يسيرُ​​ الهوينى​​ يؤرجحه​​ الموجُ​​ العالي قليلاً،​​ وتهبُّ عليه ريحٌ​​ خفيفة​​ فتدفع به​​ للسير​​ من حين إلى حين،​​ والفتى​​ الصيّاد​​ غلبته​​ شدَّةُ​​ تعبه​​ ونعاسه​​ وجوعِه​​ فنام..​​ ورأى​​ في نومِه​​ حوريةً​​ تخرجُ​​ من أعماقِ​​ البحر​​ تُمَجِّدُها​​ العيون​​ ويسبي​​ بهاء حسنها القلوب

 

​​ رآها​​ تتجهُ​​ صوبَ​​ القاربِ،​​ تمشي​​ بجلالٍ​​ على​​ سطح​​ الماء​​ بقدمين حافيتين​​ فلا تغرق،​​ وقد انْسَدَلتْ​​ ضفائرُها​​ السود​​ على ظهرِها​​ وكتفيها،​​ ثم راحت​​ تنسابُ​​ وراءَها​​ تعانقُ​​ وجهَ​​ البحرِ​​ العظيم​​ ،​​ وفي​​ كل من​​ معصميْها​​ تلوحُ​​ حِلْيَةٌ من الزّمُردِ والمرجان،​​ وفي جيدِها عقدٌ​​ من اللؤلؤِ​​ والياقوت.​​ ​​ 

 

بلغتِ​​ الحوريةُ​​ القاربَ​​ فوضعتْ​​ يديها​​ على حافتِه وهزَّتْه​​ برفق​​ لطيف،​​ فاستيقظَ​​ الفتى الصياد، ووجدَ​​ أمامَه​​ حوريةَ​​ ​​ تسبي​​ العقل​​ والروح​​ وتحرِّك​​ ​​ المودة في مكامنِ​​ القلب​​ والشغفَ​​ الشديد​​ والحنينَ​​ إلى الأوطان​​ كأشدّ​​ ما يكونُ الحنين.

 

​​ إنها بعينها​​ الحوريةُ​​ التي رآها في منامِه،​​ فخفقَ​​ قلبُه​​ لها​​ وسألها​​ وهو​​ بين اليقظة والمنام​​ من تكونْ..؟​​ قالتْ​​ له بصوتٍ​​ يشبِهُ​​ الخشوع​​ ورَجْعَ​​ الموجِ​​ والرِّيح:​​ أنا السلحفاة التي أنقذتَها مِنَ​​ الشِباك وأعدْتَها إلى الماء؛​​ أنا الأميرة ابنة ملكِ​​ البحار.​​ عرفَ​​ أبي ما فعلتَه من أجلي،​​ فأوفدَني​​ إليكَ​​ ليجزيكَ​​ جميلَ​​ ما فعلت، وهو يعرضُ​​ عليكَ​​ أن تتزوجَني​​ مكافأةً​​ لكَ​​ على رحمتِك​​ وطيبةِ​​ قلبك، لنعيشَ​​ معاً​​ في​​ جزيرةِ الأزل والعمر​​ الذي لا​​ ​​ ينتهي​​ ولا​​ يزول،

حيث لا يفنى الإنسان​​ فيها​​ ولا يموت.

 

 ​​​​ شغلتِ​​ الحوريةُ​​ قلبَه​​ وألهبتْ​​ مشاعره​​ حينما​​ صعدتْ​​ إلى القارب،​​ فجلستْ​​ إلى​​ جوارِه​​ بِخَفَرِ​​ الأنثى ​​ منذ​​ بدايةِ​​ الخلق​​ الأول​​ والعهد​​ القديم​​ ،​​ فراحَ​​ الفتى يخالسُها النظرَ​​ ويستطلعُ​​ سحرَها​​ من حينٍ​​ إلى حين،​​ وهو​​ يجدِّفُ​​ بقاربِه بنشاطٍ​​ دبَّ في جسمِه من جديد.​​ بذل جهداً​​ شاقاُ​​ لكي​​ يصلا​​ إلى​​ الجزيرة​​ قبلَ​​ أن​​ يحلَّ​​ المغيب، وحينما​​ تواريا​​ عن اليابسةِ​​ خلفَ​​ الأفق​​ البعيد،​​ لاحتْ​​ لهما​​ من بعيد​​ جزيرة​​ الخلود.. الجزيرةُ​​ التي​​ لا يفنى​​ فيها الإنسانُ​​ ولا​​ يموت.

 

قضى الفتى الصيادُ​​ وزوجته​​ ابنة ملكِ​​ البحرِ،​​ أياماً​​ حافلة،ً​​ فائضة​​ بالحبِّ​​ والسعادةِ​​ والفرح الكبير..​​ عاشا​​ بسعادةٍ​​ هانئة​​ بلغتْ​​ حدودَ​​ الخيال​​ اللامعقول.​​ ​​ لكنّها​​ لم​​ تخلُ​​ من​​ شوقٍ​​ يُنَغِّصُها​​ -​​ الشوقِ​​ إلى زوجتِه وبنيه..​​ وحينما استبَدَّ​​ به الحنينُ​​ إلى دياره..؟​​ صارحَ​​ زوجتَه​​ ​​ بالأمر​​ وتوسَّلَ إليها​​ أن تسمحَ​​ له بالسفرِ​​ إلى ديارِه​​ يستطلعُ​​ أحوالَ​​ أهلِه،​​ ويخبرُهم​​ أنّه​​ ما​​ زالَ​​ على قيدِ​​ الحياة.​​ وقطعَ​​ لها عهداً​​ على نفسِه​​ أن يرجعَ​​ إليها​​ فلا يغيبُ​​ عنها​​ لوقتٍ​​ طويل.

 

هكذا​​ اطمَأنَّتِ​​ الأميرةُ​​ إلى وعدِه،​​ وصدَّقَتْ​​ ما​​ يقسم​​ ويقول​​ واستجابتْ​​ لرجائِه،​​ فحَضَنتْه​​ ونامتْ​​ إلى جوارِه​​ ذلكَ​​ الليل الطويل.​​ وفي الصباح ودَّعَتْه​​ وتمنّتْ​​ له​​ ريحاً​​ مؤاتيةً​​ وسفراً​​ سالماً​​ من كلِّ​​ سوء..​​ ثم​​ زوَّدَتْهُ​​ بما يحتاجُهُ من​​ مؤونةٍ​​ تكفيه​​ لرحلتِه​​ وتفيض. كما زوَّدتْه بكثيرِ​​ من​​ حجارةِ​​ البحرِ​​ الكريمة​​ كاللؤلؤِ​​ الأبيضِ​​ والمرجان، هدايا​​ لأهلِه​​ تضيءُ​​ ببريقها​​ ظلمةَ​​ المقبل من​​ لياليهِ.​​ 

 

أعطتْه​​ أيضاً​​ صندوقاً مقفلاً​​ وتوسّلتْ​​ إليه​​ ألاّ​​ يفتحه​​ مهما حدث​​ له في الطريق. قالتْ​​ له:​​ سيساعدُك في العودةِ​​ سالماً​​ إلى​​ الجزيرة.​​ ووعدَها بأنّه مهما حصل​​ فلن يفتحَ​​ الصندوق.

 

 

 

downloadالأميرة تعطيه الصندوق

 

 

 

 

 

وتحوَّلتِ​​ الأميرةُ​​ فجأة​​ إلى سلحفاة​​ من جديد،​​ فحملتْ​​ على ظهرِها​​ زوجها​​ الفتى الصياد، وصعدتْ​​ به من​​ القصرِ​​ في قاعِ​​ المحيط​​ حتى بلغتِ​​ الشاطىء​​ القريب.​​ تحسَّرتْ​​ لفراقِه​​ ثمّ​​ تركتْه​​ في​​ حالِ​​ سبيله،​​ وعادتْ​​ مسرعةً​​ إلى القصر، لا تلتفتُ​​ وراءَها​​ لكي​​ لا​​ تخونَها دموعُها​​ وهو​​ يُوَدِّعُها​​ عندَ الرحيل..​​ وقالتْ​​ في نفسِها: من يدري..؟ لعلّي​​ لن​​ أراه​​ من جديد؟...​​ وربما​​ لن​​ يعود..؟​​ 

 

 

 

downloadالسلحفاة

 

 

هكذا​​ استقلَّ الفتى الصيادً قاربَه​​ ويمَّمَ​​ وجهَه شطرَ​​ بلادِه،​​ تاركاً​​ وراءَه​​ الأميرة​​ حبيبته​​ التي واعدته على​​ الحب​​ والوفاء​​ العظيم.​​ 

 

تركَها​​ مطمئن القلب هادىء الخاطر​​ في​​ الجزيرةِ​​ التي لا​​ يفنى الإنسان فيها أو​​ يموت.​​ قطعَ​​ المسافةَ​​ في العودة​​ إلى بلاده​​ التي استغرقت​​ أياماً​​ ولياليَ​​ طويلةً،​​ وحينما​​ بلغَ​​ اليابسة،​​ وتراءى له​​ أنَّه​​ وصلَ​​ إلى​​ دياره..؟​​ لم يَعْثرْ​​ لقريتِه​​ على​​ أثر​​ أو دليل،​​ فقدِ اخْتَفَتْ​​ معالمُها​​ عن​​ الأرض. الأرض​​ التي عرفها​​ في صباه وأيام طفولته.​​ 

 

وحينما​​ عصفتْ به​​ الهواجس​​ والأحزان​​ واحتارَ​​ قلبه​​ في أمرِه..؟​​ ثمة​​ أناسٍ​​ صادفَهم في الطريق..​​ فراحَ​​ يسألُهم عن​​ بيتِه​​ وأهلِه فلا يلقى منهم​​ جواباً​​ يكشفُ​​ له​​ السِّر​​ ويساعدُه على تجاوزِ​​ المِحنة​​ التي ألمَّتْ به..​​ وحينَ​​ أخبرَهم عن اسمِه..؟ قالوا له:​​ هذا الصيَّاد تناقلوا​​ حكايته وانتظروا​​ أخباره​​ على مر الزمن،​​ وقد​​ مضى على رحلته​​ أجيالٌ وقرون​​ طويلة.​​ ​​ ​​ ​​ 

 

هكذا اكتشفَ​​ الفتى​​ الصياد أنَّه غادرَ​​ قريتةَ​​ منذُ​​ عهدٍ​​ سحيق،​​ حينما​​ ذهبَ​​ إلى الصيدِ​​ يوماً​​ والتقى​​ السلحفاة ابنةَ​​ ملكِ​​ البحر،​​ وما حدثَ​​ له​​ كان على أطرافِ الزّمنِ الموغلِ في التاريخ،​​ ولم يكنْ بالأمسِ القريب.​​ وهكذا هام الفتى​​ على وجهِه لا يلوي​​ على​​ شيء،​​ لا يعلمُ​​ أين يذهب​​ وإلى أين يسير، حتى قادتْه قدماه إلى مقبرةٍ​​ قديمة​​ نائية​​ -​​ من عمرِ​​ الزّمن​​ اللامحدود..​​ فقرأ على شواهدِها​​ اسمَه واسمَ​​ أمِّه وأبيه​​ وإخوتِه وزوجتِه​​ وأحفادِ​​ بنيه..!؟​​ تجمّعتْ​​ كلُّ​​ غصاتِ​​ الزمن دفعة واحدة​​ في​​ حلقِه​​ وروحِه،​​ وتمنى من أعماقِ​​ قلبه​​ ووجدانه؟​​ ​​ لو كان واحداَ​​ من​​ ​​ سكانِ​​ تلك​​ القبور.

 

حينما​​ استبدتْ​​ به الأحزانُ​​ وخفيَتْ​​ عليه الأسرار،​​ وأضنته قسوة الأقدار​​ والتفكير​​ المؤلم الطويل..؟​​ انتحى جانبا،ً​​ ​​ فسندَ​​ رأسَه بكلتا​​ يديه​​ وراحَ​​ يبكي​​ بمرارة​​ بكاءَ​​ الأطفال​​ المشردين،​​ ويستحضرُ​​ تاريخَه​​ من جديد.​​ حينها​​ فقط​​ قطع الشك باليقين​​ وقرَّرَ​​ أن يفتحَ​​ الصندوق..!!​​ لعلَّه يجدُ​​ فيهِ​​ ما يفسِّرُ​​ سرَّ​​ الزَّمنِ المفقود؟.​​ 

 

 

 

 

الصندوق

 

 

 

هكذا​​ فتحَ​​ الصياد​​ المشرد​​ التائه​​ الصندوق،​​ فذهل وهو يرى​​ دخاناً​​ كثيفاً أبيضَ​​ يرتفعُ عالياً​​ في الفضاء.​​ وفجأةً​​ أحسَّ​​ بوطأةِ​​ الزمن؛​​ فانحنى​​ ظهرُه​​ وتَقَوَّستْ​​ ​​ ساقاه وأصابه وهنٌ شديد،​​ فتجَعَّدَ​​ وجهُه​​ وشابَ​​ شعرُه​​ وعَمِيَتْ​​ عيناه،​​ ونبتَتْ​​ له لحية طويلة بيضاء، ووقعت من يديه عصاه​​ وأصابَه​​ إعياءٌ​​ شديد​​ ودنا أجلُه،​​ فاصطكتْ​​ ركبتاه وارتجفتْ​​ أوصالُه وشعرَ​​ بمفاصلِه ترتخي وتخور.​​ كانتْ​​ روحُه​​ تفاوضُ​​ جسدَه​​ عندما بلغَه صوتُ​​ زوجتِه ومحبوبتِه​​ يناديه​​ من بعيد​​ وهو​​ في الرَّمقِ​​ الأخير، وهي​​ تبكي​​ وتتوسلُ إليه​​ ألاَّ​​ يفتحَ​​ الصندوق.​​ ​​ 

​​  ​​ ​​ ​​ ​​​​ 

 ​​​​ 

 ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​  ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​ ​​​​ 

 

 

للمشاركة

ابراهيم يوسف

Read Previous

من ديوان “قصائدُ فاطمة”

Read Next

الحبّ جمرةٌ تلتهب

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *