الصيّاد.. وابنةُ ملكِ البحر
"من أساطير اليابان" القديمة
اختار النص من أرشيف الروافد
وَدَقَّقَهُ للنشر من جديد
د. عبدالله ابن الأستاذ إبراهيم
أين ما يُدعى ظلاماً يا رفيقَ الليل أينـا؟
إنّ نـور الله في القلـــــب وهـذا ما أراه
لو أرَدْتَ السِّرَّ..؟
فاسأل عنه أزهارَ الخميلة..
عمرُها يومٌ
وتحيا اليوم حتّى منتهاه
مرسي جميل عزيز
إبراهيم يوسف – لبنان
إِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون
"سورة الحج 47"
ولو انَّ الموتَ كان جزءاً
من دوران عجلة الدّنيا
كالحب والحياة والزواج والمرض
والغضب والأمل والسكينة والصخب، والولادة
ثم الموت؛ فالقيامة من جديد،
لكن الخوف الحقيقي؟؟
أن يأتيَ يومٌ ينتصرُ فيه الإنسانُ
على الموت
وتستمرُّ به الحياة إلى الأبد.
فيواجه محنة جديدة في عمره
من محن الزمان الطويلة
التي لا تنتهي أبدا
إلا بقول أبي نواس "توأم الخيّام":
وداوني بالموت.. بالذي كان هو الداءُ
فيغدو الموت خلاصاً
من مآسي البقاء
والعيش الطويل الذي يستمرُّ إلى الأبد
"الحياة كما يراها سام"..؟ فيلمٌ وثائقيٌ أنجزَه سام پيرنز قبلَ أن "يرحل". ماتَ شيخاً كأنّه في التسعين.. وفي الحقيقة لم يكنْ قد تعدى عُمْرَ المراهقة بعدُ، إلاَّ بقليل. ماتَ شاباً في ملامحِ إنسانٍ عجوز.. لكنّه ماتَ مبتسماً وفي قلبِه إقبالٌ على الدنيا وشغفٌ بالعيش الطويل. قضى بسببِ مضاعفاتٍ عاناها من مرضٍ وراثيٍّ نادر "Hutchinson Gilford" لا يصيبُ إلاّ واحداً من ثمانية ملايين. طوى الرجلُ تسعينَ عاماً بأقلَّ من عقدينِ من الزمن، وقالَ قبلَ أن يلفظَ أنفاسَه الأخيرة؛ أو "يفتحَ الصندوق؟!!": واجهتُ كثيراً من العقباتِ والمصاعبِ والقسوة والألم في حياتي.. لكنّني لا أريدُ أن يشعرَ أو يشفق الآخرون بالحزنِ على حالي.
وعندما قرأتُ خبرَ وفاة سام پيرنز في الصُّحف؟ أشفقتُ على حالي؛ وأحسستُ بفيضٍ من المشاعر المرتبكة المتناقضة كالحب والقسوة والموت والغضب والظلم والمرارة تجتاحني كلها وتحملني إلى "سام" پيرنز أصل الحكاية أو فرعها لا فرق.. الصبيِّ الياباني العجوز، وخطرتْ لي أسطورة أوراشيما اليابانية عن الفتى"الصيادِ وابنة ملكِ البحر" وكيف أعاد توفيق الحكيم صياغتها بلغة فلسفية راقية "ومبتكرة". ثم تذكرتُ كيف أعاد "راسين" كتابة "أندروماك" من أساطير اليونان القديمة وفق منظوره؛ وتوفيق الحكيم نفسه، كان قد أعاد كتابة بجماليون من أجمل الأساطير. أما الحكاية التي أكتبها بخجل شديد وتواضع أشد - بالمقارنة، فإنّها حكاية خصَّصْتُها لمن يشاء من القراء.. كباراً وصغاراً تكريماً لذكرى "سام"، الإنسانِ الطفل، الذي تقمَّصَ قبل رحيله أسطورةَ الرحيل السريع .
أسرتني بحق الحكاية الأسطورة، فلم أتمكنْ إلاّ أن أتعاطفَ مع "سام"، صاحب الحظ المنكود، لما أصابه من السوءِ وأن أحزن لحالِه وأحوالِ من يواجهون في حياتِهم سوءَ حظِّه والظروف التي تحيط به.
كان سام إنساناً طاهراً ونبيلاً يستحقُ أن يعيش أكثر، ويكفيهِ فخراً أنَّه أمضى عمرَه القصير بشجاعةٍ نادرة وصبرٍ جميل..! وهكذا.. أرجو المعذرة إن أساءت إليكم الصورة المرفقة بالنص؟ وأتمنى أن ترحموه حيثما يرقد، فلا تسوؤكم صورتُه لئلاّ تؤلموه أو تَجْرَحُوهْ.
ذات مرة في ذلك الزمن المغرق من عمر التاريخ..؟ ، خرجَ "أوراشيما تارو" الفتى الصيّاد بقاربِه وأدواتِ صيدِه، وأوغل بعيداً عن الشاطىء متفائلاً بيومٍ مُوَفّق وصيْدٍ وفير، فألقى شباكَه في بحرٍ ساكن كالزّيت، أو كطفلٍ يغطُّ في نومٍ عميق، وراحَ ينتظر.. انتظرَ معظمَ ساعاتِ النهار. انقضى يومُه وأقبلَ العصرُ ولمّا يظفرْ بعدُ بصيد قليل. كانَ يشعرُ بالخيبةِ والمرارة والأحزان وهو يسحبُ شباكَه استعداداً للعودة إلى الشاطىء من جديد. عودة غير موفقة بلا ريب، حينما أبصرَ سلحفاةً عالقةً في الشباك..؟ ولمَّا كانتِ السلاحفُ مقدَّسةً عندَ ملكِ البحر، تعيشُ ألفَ عام ويقولونَ: ربما أطول ، فقد حرَّمَ على نفسِه أن يقتلها ويسلبَها عمرَها الطويل.. ولو على حسابِ رزقِه وقوت عياله الذين ينتظرون عودته بصيدٍ وفير.
هكذا أشفقَ الصيادُ أوراشيما على السلحفاة، فرفعَها برفقٍ بين يديه.. تأملّها طويلا بعيون مليئة بالدموع، ثم أعادَها إلى البحر بعنايةِ الطفلِ الرَّضيع. توقفتِ السلحفاة هنيهة قبل أن تغوص في الأعماق، كأنّما لتشكرَه على عنايته ووداعتِه وطيب قلبه وحسن صنيعه..ثم حرَّكتْ زعانفَها وغاصتْ من جديد في عمق المحيط. هكذا لمَّ الفتى الصيّادُ شباكَه بقلب خائب ونفسٍ حزينة وقد آلمَه أن يعودَ إلى زوجتِه وأطفالِه خائباً، خاليَ اليدينِ من السَّمك والقوت.
كانتِ الشمسُ ترسلُ أشعتَها المُحتَضِرَة وتوشكُ على المغيب، والقاربُ يسيرُ الهوينى يؤرجحه الموجُ العالي قليلاً، وتهبُّ عليه ريحٌ خفيفة فتدفع به للسير من حين إلى حين، والفتى الصيّاد غلبته شدَّةُ تعبه ونعاسه وجوعِه فنام.. ورأى في نومِه حوريةً تخرجُ من أعماقِ البحر تُمَجِّدُها العيون ويسبي بهاء حسنها القلوب
رآها تتجهُ صوبَ القاربِ، تمشي بجلالٍ على سطح الماء بقدمين حافيتين فلا تغرق، وقد انْسَدَلتْ ضفائرُها السود على ظهرِها وكتفيها، ثم راحت تنسابُ وراءَها تعانقُ وجهَ البحرِ العظيم ، وفي كل من معصميْها تلوحُ حِلْيَةٌ من الزّمُردِ والمرجان، وفي جيدِها عقدٌ من اللؤلؤِ والياقوت.
بلغتِ الحوريةُ القاربَ فوضعتْ يديها على حافتِه وهزَّتْه برفق لطيف، فاستيقظَ الفتى الصياد، ووجدَ أمامَه حوريةَ تسبي العقل والروح وتحرِّك المودة في مكامنِ القلب والشغفَ الشديد والحنينَ إلى الأوطان كأشدّ ما يكونُ الحنين.
إنها بعينها الحوريةُ التي رآها في منامِه، فخفقَ قلبُه لها وسألها وهو بين اليقظة والمنام من تكونْ..؟ قالتْ له بصوتٍ يشبِهُ الخشوع ورَجْعَ الموجِ والرِّيح: أنا السلحفاة التي أنقذتَها مِنَ الشِباك وأعدْتَها إلى الماء؛ أنا الأميرة ابنة ملكِ البحار. عرفَ أبي ما فعلتَه من أجلي، فأوفدَني إليكَ ليجزيكَ جميلَ ما فعلت، وهو يعرضُ عليكَ أن تتزوجَني مكافأةً لكَ على رحمتِك وطيبةِ قلبك، لنعيشَ معاً في جزيرةِ الأزل والعمر الذي لا ينتهي ولا يزول،
حيث لا يفنى الإنسان فيها ولا يموت.
شغلتِ الحوريةُ قلبَه وألهبتْ مشاعره حينما صعدتْ إلى القارب، فجلستْ إلى جوارِه بِخَفَرِ الأنثى منذ بدايةِ الخلق الأول والعهد القديم ، فراحَ الفتى يخالسُها النظرَ ويستطلعُ سحرَها من حينٍ إلى حين، وهو يجدِّفُ بقاربِه بنشاطٍ دبَّ في جسمِه من جديد. بذل جهداً شاقاُ لكي يصلا إلى الجزيرة قبلَ أن يحلَّ المغيب، وحينما تواريا عن اليابسةِ خلفَ الأفق البعيد، لاحتْ لهما من بعيد جزيرة الخلود.. الجزيرةُ التي لا يفنى فيها الإنسانُ ولا يموت.
قضى الفتى الصيادُ وزوجته ابنة ملكِ البحرِ، أياماً حافلة،ً فائضة بالحبِّ والسعادةِ والفرح الكبير.. عاشا بسعادةٍ هانئة بلغتْ حدودَ الخيال اللامعقول. لكنّها لم تخلُ من شوقٍ يُنَغِّصُها - الشوقِ إلى زوجتِه وبنيه.. وحينما استبَدَّ به الحنينُ إلى دياره..؟ صارحَ زوجتَه بالأمر وتوسَّلَ إليها أن تسمحَ له بالسفرِ إلى ديارِه يستطلعُ أحوالَ أهلِه، ويخبرُهم أنّه ما زالَ على قيدِ الحياة. وقطعَ لها عهداً على نفسِه أن يرجعَ إليها فلا يغيبُ عنها لوقتٍ طويل.
هكذا اطمَأنَّتِ الأميرةُ إلى وعدِه، وصدَّقَتْ ما يقسم ويقول واستجابتْ لرجائِه، فحَضَنتْه ونامتْ إلى جوارِه ذلكَ الليل الطويل. وفي الصباح ودَّعَتْه وتمنّتْ له ريحاً مؤاتيةً وسفراً سالماً من كلِّ سوء.. ثم زوَّدَتْهُ بما يحتاجُهُ من مؤونةٍ تكفيه لرحلتِه وتفيض. كما زوَّدتْه بكثيرِ من حجارةِ البحرِ الكريمة كاللؤلؤِ الأبيضِ والمرجان، هدايا لأهلِه تضيءُ ببريقها ظلمةَ المقبل من لياليهِ.
أعطتْه أيضاً صندوقاً مقفلاً وتوسّلتْ إليه ألاّ يفتحه مهما حدث له في الطريق. قالتْ له: سيساعدُك في العودةِ سالماً إلى الجزيرة. ووعدَها بأنّه مهما حصل فلن يفتحَ الصندوق.
وتحوَّلتِ الأميرةُ فجأة إلى سلحفاة من جديد، فحملتْ على ظهرِها زوجها الفتى الصياد، وصعدتْ به من القصرِ في قاعِ المحيط حتى بلغتِ الشاطىء القريب. تحسَّرتْ لفراقِه ثمّ تركتْه في حالِ سبيله، وعادتْ مسرعةً إلى القصر، لا تلتفتُ وراءَها لكي لا تخونَها دموعُها وهو يُوَدِّعُها عندَ الرحيل.. وقالتْ في نفسِها: من يدري..؟ لعلّي لن أراه من جديد؟... وربما لن يعود..؟
هكذا استقلَّ الفتى الصيادً قاربَه ويمَّمَ وجهَه شطرَ بلادِه، تاركاً وراءَه الأميرة حبيبته التي واعدته على الحب والوفاء العظيم.
تركَها مطمئن القلب هادىء الخاطر في الجزيرةِ التي لا يفنى الإنسان فيها أو يموت. قطعَ المسافةَ في العودة إلى بلاده التي استغرقت أياماً ولياليَ طويلةً، وحينما بلغَ اليابسة، وتراءى له أنَّه وصلَ إلى دياره..؟ لم يَعْثرْ لقريتِه على أثر أو دليل، فقدِ اخْتَفَتْ معالمُها عن الأرض. الأرض التي عرفها في صباه وأيام طفولته.
وحينما عصفتْ به الهواجس والأحزان واحتارَ قلبه في أمرِه..؟ ثمة أناسٍ صادفَهم في الطريق.. فراحَ يسألُهم عن بيتِه وأهلِه فلا يلقى منهم جواباً يكشفُ له السِّر ويساعدُه على تجاوزِ المِحنة التي ألمَّتْ به.. وحينَ أخبرَهم عن اسمِه..؟ قالوا له: هذا الصيَّاد تناقلوا حكايته وانتظروا أخباره على مر الزمن، وقد مضى على رحلته أجيالٌ وقرون طويلة.
هكذا اكتشفَ الفتى الصياد أنَّه غادرَ قريتةَ منذُ عهدٍ سحيق، حينما ذهبَ إلى الصيدِ يوماً والتقى السلحفاة ابنةَ ملكِ البحر، وما حدثَ له كان على أطرافِ الزّمنِ الموغلِ في التاريخ، ولم يكنْ بالأمسِ القريب. وهكذا هام الفتى على وجهِه لا يلوي على شيء، لا يعلمُ أين يذهب وإلى أين يسير، حتى قادتْه قدماه إلى مقبرةٍ قديمة نائية - من عمرِ الزّمن اللامحدود.. فقرأ على شواهدِها اسمَه واسمَ أمِّه وأبيه وإخوتِه وزوجتِه وأحفادِ بنيه..!؟ تجمّعتْ كلُّ غصاتِ الزمن دفعة واحدة في حلقِه وروحِه، وتمنى من أعماقِ قلبه ووجدانه؟ لو كان واحداَ من سكانِ تلك القبور.
حينما استبدتْ به الأحزانُ وخفيَتْ عليه الأسرار، وأضنته قسوة الأقدار والتفكير المؤلم الطويل..؟ انتحى جانبا،ً فسندَ رأسَه بكلتا يديه وراحَ يبكي بمرارة بكاءَ الأطفال المشردين، ويستحضرُ تاريخَه من جديد. حينها فقط قطع الشك باليقين وقرَّرَ أن يفتحَ الصندوق..!! لعلَّه يجدُ فيهِ ما يفسِّرُ سرَّ الزَّمنِ المفقود؟.
هكذا فتحَ الصياد المشرد التائه الصندوق، فذهل وهو يرى دخاناً كثيفاً أبيضَ يرتفعُ عالياً في الفضاء. وفجأةً أحسَّ بوطأةِ الزمن؛ فانحنى ظهرُه وتَقَوَّستْ ساقاه وأصابه وهنٌ شديد، فتجَعَّدَ وجهُه وشابَ شعرُه وعَمِيَتْ عيناه، ونبتَتْ له لحية طويلة بيضاء، ووقعت من يديه عصاه وأصابَه إعياءٌ شديد ودنا أجلُه، فاصطكتْ ركبتاه وارتجفتْ أوصالُه وشعرَ بمفاصلِه ترتخي وتخور. كانتْ روحُه تفاوضُ جسدَه عندما بلغَه صوتُ زوجتِه ومحبوبتِه يناديه من بعيد وهو في الرَّمقِ الأخير، وهي تبكي وتتوسلُ إليه ألاَّ يفتحَ الصندوق.